خارطة طريق أولية لنهضة يسار متعثر

 شكّلت انتفاضة الخريف منعطفا زمنياً في تاريخ الصراع الشعبي مع دولته الحاكمة، إذ تحولت سريعاً من تذمّر إلى تمرد إلى حراك منظّم إلى حراك شبه منظم إلى انتفاضة شعبية من دون أن تبلغ الثورة. تمكنت هذه الانتفاضة الشعبية من صفع السلطة المتهالكة والمأزومة من دون أن تستطيع أن تحول الصفعة إلى بديل ثوري جاهز ما أضاع فرصة تاريخية لحركات النضال الوطني اللبناني لإعادة تشكيل السلطة على اسس وطنية لا طائفية وعلى أسس العدالة والاقتصاص من السارق والناهب للمال العام.

أضاعت الانتفاضة في أيامها الأولى فرصة إعلان حكومة ثورية من إذاعة لبنان ومن تلفزيون لبنان الرسميان. كان يلزمها مئة فارس ملثّم وشجاع، اسماءهم بأسماء الانهار والوديان والجبال. كان يجب استغلال فرصة التقاء خط القهر بخط انهيار الدولة بخط الصدفة التاريخية بخط وعي الناس. كانت الناس في الساحات وفي البيوت على درجة من الوعي تفوق قيادات الشوارع غير المتفقة على برنامج جامع وواضح لعدم وضوح النضج الثوري.

كانت وما زالت السلطة اللبنانية ضعيفة التماسك لان حكومتها ليست إلّا رابطة بين برجوازيات الطوائف ممثلة بحزب الطائفة وبطائفة الحزب. حكومات الوحدة الوطنية تعني تجمعات لرجالات إدارات الأعمال والأموال لبرجوازيات الطوائف. من هنا نفهم الخطوط الحمراء للمفتي وللبطريرك. وحدها الدولة المالية العميقة ممثلة بالطغمة المالية الحاكمة من تحكم لبنان. على رأس الطغمة المالية يجلس الحاكم بأمر المال.

أسوأ الأحزاب او التنظيمات هي تلك التي تحولت من تنظيم إلى ميلشيا عسكرية في الشارع إلى ميليشيا موظفين وإداريين ومحاسيب إلى عصابات منظمة في الدولة. لا أحزاب حاكمة في لبنان ولا جمعيات خيرية لا تبغي الربح انما عصابات منظمة تبغي الربح والشراء والسرقة والفساد والبيع وتشكيل ماكينات انتخابية موسمية.

هذا حال الدولة اللبنانية، خيبات مبنية على فشل.

أمّا الأحزاب من خارج السلطة كالحزب الشيوعي اللبناني العريق فقد تحوّل في العقود الثلاثة الأخيرة لحزب المثقفين بعد أن سرقوا فقراءه كحال كل اليسار في العالم بعد الصدمة النفسية السوفياتية الكبرى مع انهيار النموذج الاشتراكي العالمي. لقد سرقت عصابات الطوائف فقراء اليسار بجدارة عبر حُسن استخدامها للمقدس وعبر استغلالها لحالة فقدان الوعي اليساري عقب الصدمة النفسية السوفياتية الكبرى. إنّ للصدمة النفسية السوفياتية الكبرى على شخصيات اليساريين أثاراً فادحة اودت بالبعض منهم إلى اللجوء إلى اعدائهم الطبقيين مستسلمين لإغواء الرأسمال ومكتئبين ومتحسرين خطأ على عمر نضالي أفقرهم لينتحروا وليموتوا قبل الأوان.

عصابات سرقت الفقراء بمقدّس سريعاً ما خيب آمالهم وسريعا ما اثبتت تلك العصابات نفسها وأمام جماهيرها المستلبة انها كافرة بحق الوطن وملحدة بحق المواطن. وحدهم الشيوعيون يؤمنون بالله العادل. بعد الحالة الطائفية القذرة تلك، سنشهد موجة معاكسة وطنية لا بد من استغلالها.

على اليسار العربي احترام المقدس عند الناس، من دون أن يسيطر المقدس عليه. لا جدوى من حقيقة مادية للخلق طالما الفقر والمرض والعوز أقوى من العقل واقوى من المعدة الخاوية وطالما أن الدولة لا تؤمن حاجيات المواطن الاساسية للعيش بكرامة ما يجعل المقدس حاجة علاجية نفسية فردية وجماعية لا تتعارض مع أهداف اليسار الاجتماعية - النفسية الكبرى. لا بدّ من إعادة الفقراء المسروقين عبر احترام مقدسهم وليس عبر محاربته ولتذهب الحقيقة إلى الجحيم إذ لا يمكن لعقل أو لدماغ إلكتروني حالي أن يحسم وجود حقيقة مطلقة.

بماذا تفيدنا الحقيقة المطلقة غير أحاديث عبثية لا تنتهي؟

لا يمكن لانتفاضة شعبية أن تتبلور من دون محطة اعلامية مرئية لخلق رأي عام وطني بأسلوب إعلامي تعبوي معاصر تعشقه العين وتستسيغه الأذن وتحبذه حاستي الذوق واللمس. الرأي العام يُصنع وعلى اليسار أن يصنعه. لا حلول من دون شخصية قائد جريء ومقتحم، عابر للطوائف، يسكن المناطق المشتركة بين دوائر الناس المتفرقة وفق اختلافات مقدساتها. ينتصر من يسكن المناطق المشتركة بين دوائر مصالح الناس العليا.

اعتادت الناس ان تكون طفيلية خدماتيا، تعيش من خيرات ومساعدات مستشفيات ومدارس ومؤسسات الطوائف وأحزابها لذلك إن قرّر اليسار أن ينهض عليه أن يسعى ولو بالقوة لتقوية القطاعات العامة في الدولة أولاً وثانياً عليه ان يبني مدارسه ومستشفياته وجامعاته ومسابحه وانديته وجمعياته الكشفية وحتى مصارفه في المحافظات بدل تسكع مناضليه عند ابواب الطائفيين، مقدما نموذجاً علمانياً وطنياً راقياً بدل الاكتفاء بالتظاهر وبالصراخ وبالعيش على ذكريات بطولات وامجاد الماضي.

ولى زمن الكلام والعبثية. الدولة مأزومة والناس وحركاتها النضالية مأزومة أكثر. لا بدّ من منافسة الطائفيين بمقدسهم وبخدماتهم لتقديم بديل انجح للبنانيين المحتارين بأمر طائفيتهم.

الطائفية مرض خطير معدٍ ومميت فاحذروها. و"للبحث تتمة" ...

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 380
`


حميدة التغلبية