ومن أبهى ما كرّسته هذه الانتفاضة هو نبذ الطائفية على امتداد ساحات الاعتصام في أرجاء الوطن. وفي جل الديب، هتف المعتصمون تضامناً مع كل المناطق من الجنوب إلى الشمال. وصدحت حناجر المعتصمين بعدة هتافات، أبرزها "كلن يعني كلن" و"يا حكومة فلّي فلّي عيّشتينا بالقلة"، وسط انتشار كثيف للأعلام اللبنانية التي رفرفت عالياً أو رُسِمت على وجوه المعتصمين، كباراً وصغاراً.
اتهامات المغرضين التي ظهرت منذ اليوم الأول للانتفاضة وتكثّفت تباعاً باتهامات التمويل والتبعية للسفارات شكَلت استياءً كبيراً لدى المعتصمين في جل الديب. وحضور الناس الكثيف فاجأ الجميع، كما أثار الشكوك لدى البعض بتبعية المعتصمين لأحزابٍ من السلطة، إلّا أنّ معظم المشاركين كانوا فعليّاً من المستقلين، ومن مناصري بعض الأحزاب الذين انتفضوا على أحزابهم، وآخرين من شريحة علمانية وقوى يسارية كان حضورها الأكثر خجلاً.
اعتصام جل الديب كان مشابهاً لباقي الاعتصامات في لبنان، تجد فيه من كل الفئات العمرية، وكان حضور الشباب لافتاً فيه، وأعداد المعتصمين كانت مفاجئة إذ أنّها تجاوزت الخمسة آلاف مواطن. ومعظم المعتصمين، أثبتوا استقلالية اعتصامهم عبر هتافاتهم المطلبيّة، وهم ممّن كانوا فاقدي الأمل في أي تغيير ممكن وكانوا يبحثون عن مستقبلهم خارج لبنان، وما إن هبّت الانتفاضة حتى شكّلت لهم فسحة أمل للمستقبل، وكانت المرّة الأولى التي ينزلون فيها إلى الشوارع للتظاهر.
وفي جلّ الديب، أيضاً، كان حضور الطبقة الوسطى جليّاً، ليدلّ على فشل السلطة في تأمين حقوق حتى للبعض من ميسوري الحال. يقولون أن السلطة لم تترك لهم حتى هواءً نظيفاً ويشكون من الوضع البيئي الخطير الذي يترافق مع تلوث الهواء والمياه والتربة ويسبب الأمراض المميتة. معظم هؤلاء ممّن سافر أبناؤهم إلى الخارج للبحث عن العيش الكريم في بيئة سليمة. يعتصمون آملين ببناء وطن كي لا يُجبروا على الهجرة. يشتكي كثير من المعتصمين من تردّي البنية التحتية وزحمة السير الخانقة في هذه المنطقة وعدم الاستقرار الذي يعيق أدني المتطلبات الحياتيّة.
استمرّ الاعتصام في جل الديب إلى أن عمد الجيش على فتح الطريق وفك الاعتصام وإزالة المنصة والصوتيات وجميع الخيم. رفع أهالي جل الديب اعتصامهم هناك لكنهم مستمرون في مطالبهم تزامناً مع باقي التحركات الشعبية.
أما منطقة الذوق فشهدت منذ بدء الانتفاضة حضوراً لافتاً لأحزاب السلطة السياسية، ولكن المستقلّين عن أحزاب السلطة فرضوا وجودهم هناك، حاملين الشعارات والمطالب المحقة مثل باقي المناطق، واستطاعوا من خلالها التمايز وإثبات استقلالية حراكهم. استمرّ المتظاهرون بالتوافد إلى مكان الاعتصام على الطريق العام، إلى أن فُتحت الطريق بعد مواجهة عنيفة مع الجيش في صباح نهار الاثنين في الرابع من الشهر الجاري. وهذا الأمر لم يثنِ المعتصمون عن استكمال تحرّكاتهم، فخرجت التظاهرات الطلابية واستكمل المعتصمون تحرّكاتهم عبر إقفال المرافق العامة، مؤكدين على أنّ لا ثقة بهذه السلطة.
في مدينة جبيل، كانت بداية الانتفاضة مع تسكير الطرقات من قبل مستقلين ويساريين وشيوعيين، وبعض مناصري السلطة الذين سعوا لإثبات وجودهم، مثل معظم المناطق، بغية تحقيق مكتسبات سياسية على حساب الناس المنتفضين. وضعوا المنتفضون الخيم في ساحة الاعتصام في أولى أيام الانتفاضة وأخذ الاعتصام يأخذ موقعه الصحيح من خلال هتافات المطالب المعيشية وحلقات حوارية. وعمد المعتصمون (من خارج أحزاب السلطة) إلى التنسيق في ما بينهم وشكّلوا مجموعات عمل ميدانية للتنظيم طوال الفترة الأولى. وبعد فتح الطرقات نظموا عدة وقفات أمام السراي في جبيل ومصرف لبنان وشركة "أوجيرو" وما زالوا مستمرين من خلال جلسات النقاش والندوات التي يقيمونها في ساحة البلدية.
اللافت في هذه المناطق، كما كل أرجاء الوطن، أنّ التظاهر أصبح جزءاً من أسلوب حياة اللبنانيين. طالبوا باستقالة الحكومة وهذا ما حصل. ويطالبون الآن بتشكيل حكومة مستقلة وطنية من خارج قوى السلطة ذات صلاحيات تشريعية استثنائية للحكومة لوضع خطة انقاذ اقتصادية، وصياغة قانون انتخاب نسبي خارج القيد الطائفي، لتتم الدعوة على أساسه لانتخابات مبكرة. وفي حين أن آخرين يطالبون بحكومة تكنوقراط ، خطأً أو خبثاً، لأهداف واضحة، لا ثقة في أي اصلاح تضعه السلطة الحالية، فنحن لن نسامح ولن نقبل بسياسات الاستغلال والإفقار وبإعادة إنتاج سلطة عاجزة أشبعتنا خطابات كاذبة لم ينفذ منها حرف واحد، بعد أن بات اللبنانيون يسكنون في بيت واحد وهو ساحات الوطن المنتفضة، طامحين بسقف العيش الكريم لكل المواطنين.