الصمت على جبهة السلطة وقواها الطبقية
التحالف الحاكم يواجه أزمة بنيوية وتاريخية في قدرته على طرح المبادرات (المناورات). وهذا يقرأ ربطاً بتصاعد الحركة الشعبية من جهة، مع الأزمة العميقة للنظام الاقتصادي التبعي الريعي، وأزمة النظام السياسي نفسه كنظام تحاصص طائفي الشكل صار عاجزاً عن تأمين وحدته السياسية المؤقتة ربطاً بالتناقض العالمي والإقليمي نفسه، من جهة أخرى. فالحركة الشعبية هي التي تجبر السلطة على القيام بالمناورات التي تهدف منها السلطة القيام بتعديلات شكلية دون المسّ بجوهر النظام.
فالتحالف الطبقي المسيطر يطرح مناورات ومخارج سياسية كالانتقال من الملكية إلى الجمهورية، أو البرلمانية، أو عبر تعديل الوجوه، أو تقديم إصلاحات محدودة مثلاً (كالتجربة الشهابيّة مثلاً). ولكنّ هناك عوامل تكبح هذه المناورات اليوم. فعمق الأزمة الاقتصادية والمالية صارت تتطلب إجراءات جذرية نقيضة للتحالف الطبقي المسيطر أي قوى رأس المال المالي بتحالفها مع قوى الفساد الكبير. وهذا ما لا يمكن للقوى الطبقية تلك أن تقوم به. العامل الآخر نابعٌ من طبيعة التناقض بين القوى السياسية المسيطرة نفسها وغياب وحدتها الطبقية؛ كونها محكومة بنظام التوزيع الطائفي الذي يفرض صراعاً في ما بينها، لم يعد ممكنا فيه تأمين وحدة هذه القوى بغياب طرف مهيمن في النظام ما بعد الطائف (كما يحاجج مهدي عامل). هذا التفكك ساد وتعاظم من الطائف وتأزّم بشكلٍ بارز ما قبل اتفاق الدوحة. وانفجر أكثر على ضوء احتدام الصراع العالمي وتعاظم تناقضات التوازن الدولي الذي كان وحده الضامن لتلك الوحدة الشكلية على مستوى جهاز الدولة. غياب تلك الوحدة سببه أيضاً التأخر الاقتصادي لتطور البورجوازية وقواها، فالبنية التبعية كبحت ذلك، ونتج عنه تفكّكاً في القوى، بين شخصيات وعائلات وقوى فساد ورأس مال مالي، تحمكها تناقضات في ما بينها.
وهذا ما يمنع هذه القوى عن التوحد في ممارستها، مضافاً إلى ذلك صعوبة الاتّجاه نحو الخيار الفاشي كخيار أخير للقوى الأكثر رجعية (وهنا المالية التابعة للامبريالية) كما في الحرب الأهلية. جُرِّب هذا الخيار عبر أدوات الفاشية الداخلية والخارجية (داعش والقوى المتطرفة) ولكنّه كُبِح بسبب مواجهة الفاشية في المنطقة وفي لبنان. هذا الكبح التاريخي لجبهة السلطة أنتج الصّمتَ السياسي الذي نتكلم عنه.
الصمت السياسي على جبهة الحركة الشعبية
الصمت السياسي للحركة الشعبية له منابع مختلفة ولكنّه ليس ناتجاً عن عجز بنيوي. فضعف تطوّر البنية الاقتصادية أضعف تبلورَ وحدة الطبقة العاملة وتنظيمها، وكان لسيادة الليبرالية في العقود الماضية دورٌ أساس في تفتيت ما تبقّى من الطبقة العاملة التي طُحنت خلال الحرب، وتمّ تشتيتها على قطاعات خدماتية في غالبها، وساد الفكر الليبرالي في الوعي العام محمولاً على الفردانية المعممة، وترافق ذلك مع التراجع التاريخي لقوى التغيير الثوري وهيمنة الفكر النقيض حتى ضمن هذه القوى وحواملها البشرية.
ولأنّ الأزمة العميقة للرأسمالية-الامبريالية فرضت تسارعاً للحدث، لم تعطِ قوى التغيير فرصةً سانحة لتعويض الخسارة في مرحلة التراجع وتجاوز إرث الليبرالية وتأثيرها، وتكوين المنصّة المعرفية والبرنامجية والتنظيمية اللازمة. فكان الانفجار الشامل سريعاً.
ولكنْ شهدنا تمرينات ومناوشات مبكرة في لبنان كمرحلة "إسقاط النظام الطائفي" و"حراك النفايات" و"حراك هيئة التنسيق" التي اندمجت كلّها في حركة لتجاوز النظام القائم في جوهرها. ووقتها برز السؤال الذي لا زال مطروحاً إلى اليوم: من البديل؟ ولم نقدر على تسريع تشكيل البديل على الرغم من تشكيل لجنة المتابعة للإنقاذ ومن بعدها انعقاد الاجتماع الموسع لقوى الانتفاضة في فندق الكومودور قبل شهرين، ولكنّها لم تستطع أن تشكّل المنبر والإطار السياسي المنظم لحظة الانتفاضة، ولو تبلور ذلك الخيار لكان من شأنه التقاط المبادرة.
الصمت السياسي على جبهة الحركة الشعبية إذاً ليس نابعاً من انغلاقٍ وعجزٍ موضوعي وتاريخي كما النظام، بل من مستوى تطوير أدوات التغيير وملاقاة الواقع برؤية متلائمة.
محصّلة الصمت السياسي
لأنّ جبهة السلطة في تناقضاتها الداخلية والخارجية تفتقد القدرة على المناورة السياسية عبر الخيار الفاشي نفسه، ولأنّ الحركة الشعبية لا زالت لم تتقدّم المشهد السياسي، فنحن أمام حالة فراغٍ سياسي يجري سدّها عبر التعبير المباشر عن الغضب في الشارع، محمولاً على حدّة مشاعر التهميش والاحتقان. ولكنّ الفراغ السياسي في تفاعله مع بقاء الشارع مساحة التعبير الوحيدة في ظل ضعف تنظيم الحركة الشعبية ووحدة عقلها السياسي وحضور ملامح تيار فوضوي عزّزت منه الليبرالية الفردانية، وأمام المشروع الغربي في التخريب في ظل تراجعه، الذي استفادت منه بعض قوى السلطة مؤقتا لتسلق الحركة الشعبية (حالة قطع الطرقات)، والبعض الآخر لتعويم المؤامرة، وممارسة العنف تجاه الحركة نفسها.
المخرج لا زال عبر تطوير الحركة الشعبية سياسيّاً والدخول بإجراءات تشكيل الحكومة الانتقالية مع الأخذ بعين الاعتبار توازن القوى القائم داخلياً وخارجياً.