ملاحقة التحقيق والمحاسبة تبني معارضة

لا مفر أمام قوى الاحتجاج والمواطنين من تقديم العمل المؤسّسي التأسيسي على الخطابات وشعارات التغيير الطوباوية.
ليس انفجار مرفأ بيروت حدثاً عابراً. هو محطّة تاريخية. وهو كذلك لضخامته وفداحة الآثار المأسوية الناتجة منه. فالبعد الإنساني أولاً والبعد المادي ثانياً ليسا راهنين، إنّما هما تاريخيان ومأسويّان سيصاحبان لبنان وأجياله ومجتمعه واقتصاده، وقد حفراً عميقاً في الذاكرة الجمعية والفردية.


فما حصل في مرفأ بيروت، في 4 آب وقبله، زلزال من فعل المنظومة السياسية الحاكمة المتسلّطة. إنه نتاج طبيعي لنهج تلك المنظومة ولوجودها ونظامها. فهذه المنظومة الطائفيّة المذهبيّة تمادت إلى حدٍّ لم يعد معه الفساد "آفة إداريّة" وجريمة في مكتب تقتصر آثارها وخسائرها على عدد من الليرات والدولارات. ففاجعة مرفأ بيروت أظهرت بالدم والمأساة، أن الفساد بات وحشاً مخصّباً ينتشر في كل مكان، وقد نهش الدولة ومؤسّساتها وإداراتها وتقمّصها. ولن تقتصر نتائج الفساد ومنظومته على هذه المأساة.
ولا غرابة في لا مسؤوليّة هذه المنظومة، التي لا تحظى بثقة أكثرية المجتمع اللبناني والمنقسمة على نفسها لأجندات خارجيّة ومصلحيّة خاصّة بها. ولا غرابة في أن تسعى إلى تصوير الحدث كخطأ إداري وإهمال وتقاعس، تمهيداً لتمييعه ولفلفته ثم إنهائه عبر إدخاله زواريب المذهبية والحزبيّة والحمايات والتوازنات والصفقات. وهي لن تتوانى عن ذلك، على دماء المواطنين الأبرياء، وعلى الرغم من المأساة والزلزال. فالمنظومة- بلا شك- ستشغّل ماكيناتها لتسخيف المأساة- الزلزال وتداعياتهما، مراهنةً على النسيان وانشغالات المواطنين وانقساماتهم، وعلى خطاباتها المذهبية والآليّات الطائفيّة الحزبيّة والمناخات الخارجيّة.
وهذا ما علينا، كمواطنين وقوى سياسية اعتراضيّة قائمة وقيد التشكّل، تداركه والوقوف في وجهه. وذلك،
أوّلاً، أمانة للضحايا والأحياء؛
ثانياً، لكون الحدث ليس خطأ إداريّاً يمكن لفلفته، إنّما هو زلزال في الدولة ومؤسّساتها. فالمنظومة تخطف الدولة وقد تحاصصتها وعطّلت ما ينظّم عملها ويحمي المواطن وحياته ونشاطه؛
وثالثاً، لأن انفجار 4 آب زلزال في الاقتصاد. فانفجار مرفأ بيروت، الركن الأساسي في اقتصاد لبنان، ليس قطعاً لطريق ضيّق ولا هو تعطيل لمرفق حيوي فحسب، إنّما ضربة قاتلة لاقتصاد لبنان الذي يحتاج إلى تطوير وإعادة صوغ. هو جريمة تدمير للاقتصاد تضع لبنان أمام مصيره. وعلى أهميّة هذا المرفق اقتصاديّاً وتاريخيّاً، فإن الحدث يتجاوزه، لا سيما مع إمكانية إيجاد بدائل. وواحد من أسباب التجاوز هو أن "إدارة" المنظومة لمرفأ بيروت نموذج من نماذج "إدارتها" المؤسسات والبلد عموماً. لقد باتت "إدارتها" وحشيّة، وبات لبنان، لا سيما منذ انفضاح الأزمة الكبرى السياسية والاقتصادية والنقديّة، في مواجهة أسئلة المستقبل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنسانيّة أيضاً.
وفي ظل هذه الوحشيّة وأزمة النظام الطائفي وانقسام منظومة السلطة على نفسها امتداداً لانقسام القوى الدولية والإقليمية وتناقض مشاريعها، وفي ظل الأزمة الاقتصادية والنقدية والاجتماعيّة، السؤال الذي يطرحه ما حصل في مرفأ بيروت هو، هل يمكن أن يعيش لبنان وإنسانه ويتطوّران في ظل نظام من هذا النوع وبلا دولة (مؤسّسة سيادية إدارية تحمي المواطنين وحياتهم ونشاطاتهم وتنظمها) وباقتصاد معطوب ومحتكر ومختل التوازن ومستنزف؟
وكما المنظومة خطرٌ على لبنان، إنساناً ومجتمعاً واقتصاداً ودولة، كذلك هي خطر على التحقيق في الجريمة. فآثار ما حصل وارتداداته أخطر مما يتمظهر في لحظته المأساوية الأولى.
من هنا، إنَّ ترك المجتمع اللبناني، ولا سيما قوى الاحتجاج والاعتراض، "مسألةَ" انفجار المرفأ في يد المنظومة هو،
أولاً، ما تريده المنظومة وتفرح به ويخدمها وينصّب المرتكب قاضياً.
وهو، ثانياً، ترك المسألة فريسة للتجاذبات السياسيّة المذهبيّة. وفي حين لا ثقة في المنظومة وحكومتها وسطوتها على المؤسسات القضائية والأمنية، وغيرها، فإن المحكمة الدوليّة التي بدأ يدعو إليها البعض تتجاوز الدولة وتطيّر مشروع بنائها وتحريرها من المنظومة، وتعرّض المجتمع اللبناني للانقسامات المذهبيّة- الدولية، إضافة إلى أنّها تُقصي المواطن وتنسف المواطنة. وكذلك، لا شك في أن نتائج تلك المحكمة ستغدو عرضة للمزاجات المحليّة، وتغذّي الانقسام المذهبي بين المحورين الدوليين- المحليين، 8 و14، آذار على حساب بناء الدولة والاقتصاد وحماية لبنان ومجتمعه.
بينما المطلوب، في هذه اللحظة المصيرية، هو أن يحضر المجتمع ويتحرّك. فإقصاء المواطنين، أو تخلّيهم عن دورهم، هو تكريس للانفجار باعتباره لحظة موت لبنان ودولته ومجتمعه واقتصاده. وهو تطويب للمنظومة وإطلاق يدها في تدمير الدولة والاقتصاد والمجتمع والسياسة والإنسان والقيم والثقافة. وهو استقالة من دور تحويل اللحظة إلى فعل تأسيسي للدولة والاقتصاد والمجتمع والسياسة والمواطن. فما بعد 4 آب 2020 ليس كما قبله.
لذا، لا بد من المبادرة إلى عمل مؤسّسي منظّم، ومهمّته الأساسيّة:
• ملاحقة الفساد والمنظومة والمشاركة في إنتاج برنامج ومشروع وطنيين لبناء الدولة والاقتصاد وحماية لبنان ومجتمعه ومواطنه
• رفض تمييع القضية ولفلفتها وفضح المخالفات والارتكابات
• ملاحقة أداء مؤسّسات الدولة في التحقيق والمحاسبة والإغاثة وحصر الأضرار وإعادة بناء مرفأ بيروت والمدينة ضمن خطة لإعادة بناء الاقتصاد
• جمع المعلومات والوثائق والشهادات وكشفها للرأي العام
• تقديم بدائل واقتراحات، سواء على صعيد إدارة التحقيق والمحاسبة والإغاثة أم على صعيد إعادة بناء المرفأ والاقتصاد والمدينة.
تضم هذه المؤسّسة، إضافة إلى أهالي المتضررين والنقابات والقوى السياسية المستقلّة وجمعيّات مدنيّة، اختصاصيين من قضاة ومحامين ومهندسين واجتماعيين واقتصاديين وبيئيين وباحثين وصحافيين.
وتتوسّع مهمّة هذه المؤسّسة لتشمل، إضافة إلى التحقيق والتوثيق ومكاشفة الرأي العام وإعداد البدائل والاقتراحات، الضغط بأساليبها وأدواتها المتعدّدة على "الدولة".
وبناءً على المعلومات والوقائع تصوغ المؤسّسة مواقفها ومطالبها (تصويب أخطاء، محاسبة مسؤولين، استقالة حكومة...).
ما حصل مأسوي وخطير وانفجار لصيغة استهلكت الدولة والمجتمع والاقتصاد والسياسة وحمّلتها أكثر مما تحتمل. ما يوجب على القوى الاعتراضية الحيّة والمواطنين أخذ المبادرة وتنظيم عملهم وصوغ إستراتيجيّة وخريطة طريق للتغيير وحشد الرأي العام.
ولأن ما حصل هو في نتائجه حربٌ مكثّفة وفي أسبابه تكثيفٌ لنهج المنظومة وإدائها وخطرها، ولأن أداء المنظومة في هذه المسألة يمثّل أداءها العام، تشكّل ملاحقة الأداء في التحقيق والمحاسبة والإغاثة وإعادة البناء... أحد المداميك لبناء معارضة ورأي عام فاعلين يتجاوزان حالة الاحتجاج والاعتراض الحاليين.
فملاحقة الأداء وربطه بإعادة بناء الدولة والاقتصاد هما امتحان للمنظومة و(ما تبقّى من) الدولة. وفي الوقت نفسه، هما امتحان للمجتمع والمواطن وقوى الاعتراض.
ولهذا كله، لا مفر أمام هذه القوى والمواطنين من تقديم العمل المؤسّسي التأسيسي على الخطابات وشعارات التغيير الطوباوية.
* كاتب وصحافي لبناني