وفي حين خضع هذا التصريح إلى نقد ونقد مضاد حول توقيته وإعلانه كردّ على إعلان حزب الله بدء استيراد المازوت الإيراني بكميات تجارية إلى لبنان، لم يتناول أي من أحزاب السلطة، بكل تناقضاتها، ماهيّة المشروع الذي يجري التسويق له أميركياً. لا بل أتى رد الفعل عموماً على شكل ترحيب وتبخير من قبل القوى الحليفة لواشنطن وكذلك من الجهات الرسمية الرئاسية والجكومية والوزارية اللبنانية، ويقابله صمت أو تصريحات بأن هذا "التنازل" الأميركي هو انتصار للبنان ونتيجة ايجابية كرد فعل على فتح العلاقة التجارية النفطية غير الرسمية مع إيران قبل أيام. لكنّ "التنازل" الحاصل هو في حقيقة الأمر تنازل لبناني عن قرار مقاطعة العدو الصهيوني لأنّ الغاز المنتظر وروده والكهرباء المنتظر إشعاعها سيتضمنان طاقة فلسطينية مسروقة سيتم نقلها من ميناء عسقلان الصهيوني عبر الأنابيب إلى ميناء العريش المصري، قبل أن يجري توريد الغاز المصري-الاسرائيلي الى السوق الأردني، ومنه إلى السوري فاللبناني، حيث سيزيد التغذية بمعدل أربع ساعات يومياً لو صدقت كل حساباتهم، فيما تستفيد سوريا من رسوم العبور عبر أراضيها.
الصمت الثقيل الحاصل مريب على كافة المستويات، الرسمية وغير الرسمية، فالكل يعلم أن هذا الأنبوب من عسقلان استعمل سابقاً في اتجاهين، لتوريد الغاز المصري إلى الكيان المحتل في بداية عمله ومن ثمّ بالاتجاه المعاكس لتوريد الغاز الفلسطيني المسروق إلى مصر والأردن بعد عام 2019 واكتشاف كميات نفطية تجارية أمام الساحل الفلسطيني وتراجع الانتاج المصري.
الانتاج المصري عاد إلى الارتفاع خلال السنوات القليلة الأخيرة وبات يفيض قليلاً عن حاجة السوق المحلي، لكنّه بالكاد يكفي أن يكون مشروعاً تصديرياً إلى ثلاث دول، ناهيك عن عقود تصديره المعقودة للشركات الايطالية والفرنسية وغيرها التي تقوم باستخراجه ضمن عقود طويلة الأمد، بالإضافة إلى النمو المصري الذي يعني الحاجة لكميات أكبر للاستهلاك المحلي كل عام. فكيف صار فجأةّ كافياً لأسواقنا، ومادةً للطبل والزمر والاستثمار الرسمي بتحقيق انجاز استيراد غاز طبيعي طال انتظاره؟
لقد أتى هذا المشروع بمبادرة أميركية لتصيب عدة عصافير بحجر واحد، وأوّلها فتح قناة غير مباشرة جديدة للتطبيع اللبناني – الصهيوني من خلال الجانب المصري، لكنّ هذه المرة مقابل مال سيدفعه لبنان عبر إيفاء قرض من البنك الدولي الذي سيتولى الدفع الآن إلى مصر مقابل ثمن الغاز، فيما ستدفع مصر لاحقاً للكيان المحتل ثمن غازه في المقاصة النفطية بينهما، وهو ما يعني، شئنا أم أبينا، تسجيل انتصار كبير مبدئيّ وسياسيّ واقتصادي للاحتلال، وهو انتصار أميركيّ أيضاً. وثاني الأهداف هذه هو تحييد لبنان عن تعاون اقليمي بعيداً عن العدو، وتحديداً مع امكانية البناء على العلاقات المستجدّة نفطياً مع العراق وتطويرها وإمكانية إعادة تفعيل الأنابيب الموجودة القديمة إلى مصفاة البداوي. وثالثها، إعطاء دور إقليمي أوسع لكلّ من الأردن ومصر، تحت المظلّة الأميركية لإدارة جانب من العلاقات المستقبلية اقتصادياً مع لبنان وسوريا.
خطّ الغاز المسمّى "عربياً" هو خط غاز منبعه مصري – صهيوني، ومناطق استهلاكه هي الأردن وسوريا ولبنان وربما لاحقاً تركيا. هو خط غاز فيه مكوّن عبري واضح، وشتّان بين العربي والعبري.
وما خفي عن التصريحات، يمكن الوصول إليه بقليل من البحث والتدقيق، حيث زار الملك الأردني واشنطن في شهر آب وجرى بحث الأمر في لقائه مع بايدن، حيث وجد فيه الأميركيون مكاسب سياسيّة عديدة، فأخذوا قرارهم بتفعيله لتعلنه السفيرة "شيا" بعد أسابيع لحجز مادة اعلامية للاستهلاك المحلي مقابل إعلان استيراد شركة الأمانة للنفط من ايران. وما بين هاتين المحطتين، جرى طرح الموضوع في قمة بغداد لدول الجوار وتمّ التداول به في ظل غياب كل من لبنان وسوريا، وجرى ترتيب تمويله من خلال قروض البنك الدولي، التي سيدفعها لبنان بالعملة الصعبة لاحقاً وتمّ حجز حصة "ترانزيت" لكلّ من الأردن وسوريا لتسهيل الموضوع، وجرى استثناؤه من قانون قيصر للعقوبات على سوريا بحماسة أميركية ظاهرة.
فهل أتى ذلك كلّه حباً للبنان، أو انتصاراً للبنانيين؟ أم أنّ الحماسة الأميركية الفعلية هي انتصار لدور وموقع الكيان المحتلّ اقليمياً ودخوله أسواق لبنان وسوريا عبر الأنابيب بعد أن فشل في دخولها من الباب، وهما من آخر الدول التي كانت لم تطبّع معه حتى الساعة؟
ووسط سعي لبناني وسوري لطمس أي حديث عن دخول الغاز الاسرائيلي ضمن الصفقة، كانت وسائل الاعلام الصهيونية تزهو فرحاً وتكشف تفصيلاً تلو الآخر، ومنها تصريحات رسمية عن وزارة الطاقة الصهيونية، ومن ثمّ تقارير نشرت في صحيفة هآرتس كما على القناة رقم 12 العبرية. كما أشار إلى المشروع وتبعاته وخفاياه موقع "قاسيون" السوري في سلسلة من المقالات، وكتاب وباحثون أردنيون، و"حملة مقاطعة داعمي اسرائيل"، وغيرهم من القوى والشخصيات ووسائل الاعلام، فيما تطمس القيادة السياسة في لبنان رأسها كالنعامة تحت التراب، وكلّها أمل بتمرير هذه الخديعة على الشعب اللبناني وتحويلها إلى أمر واقع سنبدأ بتسديد ثمنه السياسي والمالي خلال أشهر قليلة.
فهل لدى الدولة اللبنانية عدّاد سحري عجيب لفصل ذرّات الغاز المصري عن ذلك الصهيوني، أم أنّ إحدى الشروط الأميركية لتفعيل الأنبوب كانت الصمت الشامل عن تدفق الغاز الفلسطيني المسروق؟ هذا التساؤل يرقى إلى اتهام مباشر لدولتنا بقيادتها السياسية من أعلى الهرم وصولاً إلى الحكومة وقواها بالصمت عن مسار تطبيعي مخزي، يجري تسويقه تحت ضغط الحاجة الاقتصادية والانهيار الشامل، كأحد الحلول لأزمة الطاقة، واستغلال حاجة الشعب اللبناني للطاقة كي يقبل بها من أية جهة أتت ولو كانت من العدو.
لقد قامت الدولة اللبنانية سابقاً بخطوات تنازلية تتضمّن تفريطاً بالحقوق اللبنانية وتنازلاً عن مبدأ مقاطعة العدو الصهيوني، وتحديداً من خلال أدائها في مفاوضات ترسيم الحدود التي سلّمت ادارتها للأميركيين، وكان يمكن إدارتها من خلال جهات أخرى أو من خلال الأمم المتّحدة. وكذلك، كان يمكن تزويد الأمم المتّحدة بالخرائط التي تثبت المنطقة التابعة للبنان، عبر صيغة تشبه مبدأ "الخط الأزرق" الذي جرى تثبيته بعد عدوان تموز عام 2006 أو كما جرى في اتفاق الهدنة عام 1948، من دون الاعتراف بأي حدود نهائية. أما مسار ترسيم الحدود البحرية فنهايته لن تكون سوى بتثبيت رسمي للحدود البحرية وهو ما يعني اعتراف لبناني رسمي، تحت ستار حقول النفط، بحدود الكيان الصهيوني للمرّة الأولى في تاريخه.
هذه المراهنة الرسمية الرخيصة على تهريب استيراد النفط الصهيوني، كما مسارها في ترسيم الحدود البحرية، لا يجب أن يمرّا مرور الكرام، بل يجب رفع الصوت برفض التسلل النفطي عبرعدم استيراد أي غاز أو كهرباء طالما كان فيه ذرة فلسطينية مسروقة واحدة، مهما بلغت الحاجة إليها.
إن مصادر الطاقة عديدة ومتنوعة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً دون الحاجة لتقديم هذا التنازل التطبيعي. نحن منتفحون على التعاون مع كل الدول القريبة والبعيدة من أجل تأمين الطاقة والنفط بشكل رسمي وعبر الدولة اللبنانية، سواء من خلال الأنابيب أو عبر البواخر أو من خلال خطوط الطاقة الكهربائية، لكن مع خط أحمر عريض لا يمكن تخطّيه، وهو الرفض المطلق لاستيراد أي ذرّة غاز أو نفط من العدو مباشرةً أو مواربةً أو عبر دولة ثالثة.
عنوان جديد للتطبيع، بإدارة أميركية وإخراج أردني-مصري وموافقة لبنانية وسوريّة، ينبغي التصدي له بشكل واضح ودون مواربة.
د. عمر الديب
مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني