في الثامنة عشرة من عمره أصدر ديوانه الشّعري الأوّل بعنوان "قصائد الحب العشرون وأغنية يائسة"، وظلّ أكثر أعماله شعبيّة وتداولاً بالرغم من إصداره في ما بعد نتاجاً يزخر بالعمق والدّهشة.
تقلّب في المناصب الدبلوماسية، فكان سفيراً لبلاده في أكثر الدول معاداة للشيوعية - ما سيدفعه لاحقاً للاستقالة من العمل الدبلوماسي- حاز على الجائزة الوطنيّة للأدب في تشيلي عام 1945 وعلى جائزة نوبل للآداب عام 1971، وظلّ لقب "شاعر الشعب" الأحبّ إلى قلبه، وهو اللقب الذي انتزعه من قلوب محبيه، الذين رأوا في قصائده مرآة تروي معاناة أبناء تشيلي الاجتماعية والسّياسية.
جمعته بالرّئيس أليندي الرّئيس الاشتراكي الذي تمّ انتخابه ديمقراطيّاً وأطاح بسلطته انقلابٌ دموي، بقيادة الدكتاتور أوغوستو بينوشيه، وبتخطيط من وكالة الاستخبارات الأميركيّة، وذلك في 11 سبتمبر من العام 1973، كما أطاح بعد أيام بصديقيه المقرّبين، المغني فيكتور جارا الذي تفنّنوا في تعذيبه وقتله والشاعر بابلو نيرودا.
هاجم الإنقلابيون منزل نيرودا، بعدما قتلوا الرئيس أليندي، بحجة البحث عن سلاح، فكان جواب نيرودا الشهير: " الشّعر هو سلاحي الوحيد"، وبعدها بإثني عشر يوماً رحل نيرودا، في 23 سبتمبر 1973 في عيادة في سانتياغو دي تشيلي، وذكر التقرير الطبي أنّ سبب الوفاة هو مرض الدّنف، أو متلازمة الهزال فضلاً عن إصابته بسرطان البروستات ذي النّمو البطيء.
سلّم أفراد عائلته بتقرير الوفاة، بالرّغم من شكوكهم حول صحته، إلى أن تأجّجت نلك الشّكوك بعدما صرّح سائق نيرودا الشخصي، بأنّ الشاعر قد تمّ تسميمه بحقنة في العيادة من قبل عملاء الحكومة العسكرية وبعدها تمّ نقله إلى المستشفى، مستشهداً بما قاله له نيرودا: هذه الحقنة ستقتلني!
تم استخراج رفات بابلو نيرودا بأمر من المحكمة في عام 2013 وأكدت النتائج التحليلية في أكتوبر عام 2017 وجود نوع من البكتيريا القاتلة، واسمها العلمي:كلوستريديوم بوتولينوم. وبالرّغم من ذلك لم تعتبر النتيجة كمؤشّر على القتل.
في أبريل 2016، أي بعد 43 عاماً من وفاته، وتم تحقيق رغبته في أن يُدفن في مدينو إيزلا نيغرا، مقابل البحر: "أيّها الرّفاق، ادفنوني في إيزلا نيغرا، مقابل البحر الذي أعرفه".
إلى بابلو نيرودا في ذكرى حضوره الأبدي، اخترت وقمت بتعريب هذه القصيدة من الإسبانية إلى العربية:
لا شيء، لكنّه الموت
هناك مقابرُ موحشة،
قبورُها مليئةٌ بالعظام التي لا صدًى لها،
القلب يغوص في ذاك النّفق،
في الظلام، الظلام، الظلام،
مثل حطام سفينة يموت ما بداخلنا،
كما لو أنّنا غرقى قلوبنا،
كما لو أنّنا نزعنا عنّا جلدنا وسكنّا الرّوح
هناك جثثٌ بأقدام،
مصنوعة من الطّين البارد واللزج،
يسكن الموتُ عظامها،
مثل نباحٍ ولا كلاب،
تُقرع كأجراسٍ،
من قبورٍ في مكان ما،
تنمو في الهواء الرّطب مثل دموع المطر..
أحيانًا أرى جنازات،
توابيت على ضوء الشّموع،
تحمل أمواتاً باهتين،
نساءً بشعورٍ ذابلة،
رجالاً بوجوه الملائكة،
وفتياتٍ صغيرات...
التوابيت تُبحر في النّهر العمودي للموت،
ذاك النّهر الأرجواني الدّاكن،
تتحرّك مع الأشرعة المعبأة بصوت الموت،
معبّأة بصوت الموت الصّامت..
الموت يصل مع هذا الصّوت،
كحذاء لا قدم فيه،
كبدلة لا رجل يرتديها،
يأتي ويقرع، بلا أحجار، بلا أصابع،
يأتي ويصرخ بلا فم،
بلا لسان،
بلا حنجرة
ومع ذلك يمكن سماعُ خطواته!
لثيابه صوتٌ شجيٌ كحفيف الشجر
يُخيّل لي أنّ للموت غناءٌ بلون البنفسج الرّطب،
البنفسج المزروع في أرض الوطن،
لأنّ وجه الموت أخضر،
اللون الذي يعلن الموت الأخضر
حين تخترق الرّطوبة أوراق البنفسج،
فيكتئب لونها في الشتاء المرير.
لكنّ الموت يجولُ العالم وهو يحملُ المكنسة،
يلفّ الأرض باحثاً عن جثث الموتى،
المكنسة هي لسان الموت الذي يبحث عن الجثث،
إنّها إبرةُ الموت التّي تبحثُ عن خيط
الموت ينام في المهود:
يُمضي حياته نائماً على الفرش الخفيفة،
على الأغطية السوداء، ويتنفس فجأة:
يُصدر صوتاً حزيناً فترتجف أوراقُ الشّجر
وتُبحر الأسرّة باتجاه الميناء،
حيث ينتظرها الموت، مرتدياً زي أميرال.