أولئك الرواة، هل عاشوا وماتوا..؟ هل كانوا وهانوا..؟ لا قصصَ بلا دماء، هل هي حتمية الوجود..؟ التوسّل والإبداع..؟ الخَلق والعَظَمة..؟إيهٍ يا دنيا الآلام..!! تدبّين بأطرافٍ بلا نهاية، وأنتِ الكائنُ الوجوديُّ الغريب، لا شبيهَ لكِ في الأكوان لساعتنا. ولا لنتجاوزَ حيواننا، العاقل واللاعاقل، يا لها من فظاظةٍ أدبية، تحمل عنصرية الإهانة والتعدّي.
في مواعيدَ سابقة ولاحقة، اختلفنا إليها من أيام ملطّخةٍ مدنّسة، وهي مرايانا، تُشبِهُنا، تعكس ما أضمرنا ونُضمر، ولأسباب ندّعي جهلها، كيف تتسلّطُ علينا أقدارٌ افتعلناها. نحن الحيوان الناطق، كلّما إنحزنا لذواتنا، لذاتنا الجمعية بجموع الأقوام والفِرََق، كلّما زادَ من سعير هتكنا لبعضنا البعض.. فكيف بالأحرى بعوالم الكائنات المختلفة الأخرى. الأحرى ان نُنعِمَ ونُمعنَ النظر بالكائن العاقل، يا له من ادّعاءٍ مفرطِ الغاية.
***
حين أضع رأسي فوق وسادة الأحلام، تفتح مخيلتي على عوالمَ لا أرتاح منها، تُغالِبُني وأُغالبها كي أغفو ولو قليلاً. أذهب فيَّ باحثاً عن سبب قلقي المُزمن، فلا أعثر على حقيقةٍ واحدة، كما لو اختلطت الأزمان بعاصفة "مولينكس" الشهيرة، فرّامةُ العصر الحديث، وَأسفاه على "بلاطة ستي لدق لحمة الكبة".. والشعلة العاقدةُ لعصبونات دماغي، تتمرّدُ، تصير فتنةً ناريّةَ الأفكار والكوابيس والمعارك، وبعض المعارج.. محطاتٌ، أهرق فيها دماً أخضرَ الهذيان، والسلاسل الزمنيّة تلذع، تلدغ الجلودَ بوجهاتِ نظرياتٍ خالية الدسم.
تلك، الجلحلة الدابّةُ بلا أطراف، الظهور والبطون فيها مُصَفّدة، والعيون معلّقةٌ بأوابي الهواء، مغلّفةٌ بحِبرها الفضيِّ، أقعُ فيها، لأستبينَ عِلمَ الجوارح، وبعض الخوارج اعتصموا أسطورة التحليلات، التخايلات والفتاوى. لذا، جهزّتُ جيوشَ الأفكارِ فوق صهوات النمل الأسود والأبيض، وازحتُ عن غيمات دفتري القديم أناملي الصغيرة، وقد صارت ملء يدي؛ فرميْتُ بها فوق قبور المجلّدات، رميْتُ ببعضها المُقلَّدين والمقلِّدين، لعلَّ تتباسطَ النفوسُ أديمَها، وتنفرجَ أساريرُ الأحاديث من أساطير العثِّ والشَطَطِ، من أساطين العبث.
***
أيادي الليل الهابطةُ على الجدران ومسافات العيون، تجود باختمار نجمات الحكايا، وقد أفردتْ أقمارُها لنسائمَ النفوس، نتجرّعُها ببداءةِ القناديل المُعتّقَةِ الأقحوان، نرومها ببصيرةٍ ضريرةِ الوعود؛ فألفيْنا الرؤى ما وراء موتنا في الحياة.
حياةٌ نذهب فيها بكامل هندامنا بلا صفاتٍ متآولةِ الأجساد، متدانيةِ السُحُبِ، سنعبثُ ببروق الأرواح، برعود المنايا. سنقتفي تخثُّرَ الدِّماء، ويلعق الغاوون من كعوب الراقصات. سيُعلّق العلماءُ على صلبان ناكري العقل، وسنقتات رمادَ الكتب والأفكار، سنلوّث النفوس والطبيعة، ونرفع فؤوس التكبير والتكفير والتحقير، ونلعن، نغرق في اللعنات، نحتفي بقصة الكلب والذئب.. مَن يحزر...!!
***
دخلتُ في غيبوبةِ اليقظة، في لُجَجِها بلا طوف نجاة، غريبَ وديانها، وهضاب أمواهها وجبالها شاهقة الوجع في دمي. في دمي وجدتُني، فوق أعواد العبيد رفعتُ رأسي.. لأشهدَ رؤوسَ الأحرار، ثمّ مزّقتُ سجِلَّ النوايا الحسنة، وأنّها بكاءُ الثلوجِ تسري في موقِ الدُّهور، وبأنّ كرويات السلام والحرب.. تدور في رَحى كأسي بجالدي القراصنة، وبأنّي من أصلاب المقاومين. في فوهاتِ أثداءٍ هورولوجية، مقذوفاتٌ مروّضة، تتعقّبُها شمسٌ مكحلّة، مخضّبةُ الحواس،
بشرُها لا يُحسِنونَ الحياةَ دونها.
***
المنامات، تلك الواقعة في رأسي، تشغل مساحات الروح، تُطلقُ أحياناً طلقاتٍ تكاد تكون قاتلة. وبعض الأرواح يومياتٌ مشروخةُ الدُّخان والرماد، ألملمُ أصباحها لليالي الشتاء والصقيع، أُفكِّكُ عنها ثرثرة التعَبِ، شيئاً من أنفاس النظرات خلف البلّلور، تُهْرِقُ ما وراء القلب من تعذيبٍ وعذابات، كأنّما انتفاضة الأزل في كأسِ الثُمالةِ، تدور حول الأرض قمراً يتعقّبُ المُجالدين في ملاعب روما، المجاهدين في فلسطين، الواقعِينَ في جُبِّ النظام العالمي.. الجديد ما بعد الجديد.
هنا، أستثني الطلقةَ الأخيرة للّحظةِ الأخيرة، ربّما المثيرةُ التمرّدِ والغضب، كأنّي لم أزل هناك متسلّلاً، مغطّىً بالشمس، والأصوات العصيبة كما الأوقات، ينفجر ماؤها حارَّ الحِمَم. يومَ قرّرتُ المكوث هرستني الفواجع، صبغت روحي بنجيعٍ لمّا يزل يُهدر، وجموع الآلام ترجمةٌ حياتية، تحتشد فيها الطقوس والحضارات ذات الدمغة الكاوبوية الواحدة على جلد المعمورة. طقوسٌ جنائزية مهتاجة الأفكار والمخالب، تقود إلى براثنها شعوبَ العالم بعنجهيةٍ وصلافة.
***
نسعى، نلهو، نسهو، كأنّي بالحياة اقترافْ، لا اعترافَ بها، لا نتخلى عنها، لا نخلص منها حتى لو رغبنا، وهي سيرة تتواصل بحماقاتنا، حَفرٌ في التيه، ننبعث فيها ونتلاشى بإدراكٍ يقينيّ البقاء، نقع بواقعنا في واقعها، تصير وقائعَ مصائرنا بكلّ أشكال الخطوات.
***
من عين الرؤى ننهلُ ما ليس يُحَدُّ، نقطف عنها نقوشاً روحيّةً، وليس في عين الإبرة غيرُ خيطِ ضوءٍ مسافرٍ بلا انقطاع. لأنّنا في الوقت، حيث التزامن والأشياء تحت قِبّةِ الجاذبية، والقراءة في كتاب الغضب، تعطّشٌ قديمٌ للدّمِ والماء، والرياح تناسلٌ، مفردةُ الخيال، نزفُ الألوان، طبائع الاستبداد في حركة الكائنات.
الأعوام كمصباح ديوجين في عين الشمس، نتلامح أطيافَنا فوق هوادج الكثبان.. تخزن الحرارةَ بطعم الصقيع. على رؤوس الأصابع شعلات تُلهِبُ الحروف، نقرأها.. الكلمات بنبرةٍ رنّانة، هي في منقار النَسر، في مخطوطاتٍ قديمة، في نجماتٍ على ثوب امرأةٍ موشّحةٍ بالأسرار، تكاد إغواءً لرعاة القلوب والأشواق.
***
صديقتي المرآة، فليكُن وجهي.. وجهي على الدوام. ولتكن ملامحي استثناءً للزّمن. لتكن نظراتي أبعد من عينيْ زرقاء اليمامة. في ميدان الحرب، خبّرتنا الخنساءُ عن أخيها صخر، مَن الذي توسّدَ الطف...؟ كأنّي برأسي فوق أعوادٍ لُجَيْنيّةِ النجيع، كأنّي بها تُردِّدُ أناشيدَ الثّوار، لا بل تُغَنّي على إيقاع موسيقى زوربا، وأنّهُ الليلُ اتخذّوهُ جملاً.. لا يا سيدي معاذ الله.
أيّها الصديق الغافي في تل الزعتر، كنّا معاً.. فاعشق جراحَكَ في روحي، واطلِقْ مرايانا تضرب بأعماق العناصر؛ فصِرْنا في حانة الدُّنيا، تعتصرنا إسفنجةُ العنصريةِ المضمّخةُ الكحول، وهذا الكُحلُ الغريب، يشقُّ ليلَ غجريةٍ رائعةِ الجمال، جذبْتُها مرّاتٍ عن وجهِ تبغِ جيتان الإفرنسية.. الجيتانية المسافرة بكعبين راقصين، بصدرٍ مثيرٍ مشاغبٍ لاهب، بحكايا سرّيةٍ شفّافة.
***
كلّما أعثرُ على وجهي الطفوليّ، أجتاز كأنّما آلاف السنين الضوئية، أرى عالمَ الهنادرة الحقيقيَّ قبل فعل الإبادة، أرى فلسطين قبل شُذّاذِ الآفاق.. هم أنفسهم في كلِّ طفلٍ تمَّ خنقهُ. مخنوقون. نعثرُ علينا أطفالاً، وقد طوّقَنا السرابُ والضباب، تهتزُّ طاولات العشق العربية.. بليالي التصهين، كؤوسٌ تكسرُ قلوبَنا في مهودها.
في الليالي الماضية، لُحودٌ تحاول التسلُّلَ إلى منافي غربيةٍ، غريبةً تلتمس أوثان الأعراب، فيها تحيا ملاحمُ داحسَ والغبراء، فيها يُعلّقُ الحلّاج، فيها تُنفى العقول.. ليس زمن إبن خلدون، ولا ابن رشد، لا الرازي وابن سينا، لا حُبَّ يغلب المقاصل.
***
تاريخٌ موحِشٌ.. لماذا يا أبي، لماذا ثابتون في الجُبِّ، وقد صار يوسُفُ أمينَ خزائن مصر.
في تلك البداءة الموحِشة، اتكأتُ على يقيني، أبصرتُ عشرةَ كواكبَ وروحين، ورسمي يومِضُ على حدِّ سكينٍ كبيرةٍ مشحوذةٍ بإتقانٍ.. مُسمّنةِ الدّماء، شاهدتُها، عشتُها بأُمِّ الجوارح، ليست خيالاً، ليست خيالاتِ فِتيةٍ.. كنّاهُم.
مراتبُ الدّماءِ الذائعةُ الصيت. كنتُ أجلسُ عندها صغيراً، كبُرنا معاً بلا ترتيب. تارةً.. نحن "أطفالَ الحكاية، رجالها، نساءها، شيوخها".. كلّهم على قلبٍ واحدٍ.. ودمٍ يعزفُ لحظة الزناد.
***
وأنا في طريقي في السادس من حزيران لعام سبعٍ وستين وتسعمائةٍ وألف، تدلّتْ راياتُ الحداد، شكرتُ السماءَ لأنها سوداء اللون، لا تروق لي الرايات البيضاء. أحبَبْتُها، مناديلُ جبل عاملة تتوّجُ رؤوس الجدّات والأمهات، تُلقي على المسامع، على الخدود وشائجَ السلام، عليها تنهمر لمساتُ الأنامل السحرية.
وأنا منذ تلك العشية، من هناك حتّى هُناي، أرتقُ أوراقي بأورادٍ عنبريةِ الضحكات، أجِمُّ عن الحقول والتلال، عن العتبات والملاعب، عن القبور المنسيّةِ رائحةً كاملةَ الأوصاف، أتجسّدُها بلا رقيبٍ أو حسيب، لأنّها دماؤنا.. نحو الأعلى، لا تسقط منها قطرةٌ واحدة، إنْ سقطتْ لابتلعَ الطوفانُ المعمورة. أذهبُ في هاتي المعمورةِ الموحِشةِ، انتظاراً لانفجار.
