ذكرياتي مع ميكيس ثيودوراكيس 2

بعد زيارته الاخيرة الى بيروت في شباط ٨٢، تسارعت الاحداث في لبنان، وبدأ العدوان الاسرائيلي وصولاً إلى الاجتياح في حزيران ٨٢. فبدأنا حملات في الخارج لحشد التضامن الدولي مع لبنان، وكان لليونان نصيب كبير من ذلك. 

اليونان والتضامن المميز

الواقع السياسي اليوناني كان ايجابياً ، الحكومة كانت مع حزب "باسوك" وهوحزب اشتراكي صديق وكان داعماً لقضايانا، وكذلك الحزب الشيوعي اليوناني لعب دوراً محورياً في التظاهرات الشعبية والتضامن اللامحدود معنا. النبض الشعبي كان رائعاً والشعب اليوناني عموماً كان داعماً بلا تردد، بكافة أطره السياسية والنقابية والشعبية، وكان "ميكس ثيودوراكيس" دائم الحضور في الفعاليات التي كانت تقام في اليونان، كيف لا وهو العائد من  زيارة تضامنية في بيروت منذ عدة أشهر فقط، وخبر معاناة شعبنا من خلال الجولات الميدانية التي قام بها.

في ظل أجواء العدوان الاسرائيلي الكبير،  ومع اقترابه من بيروت أخذنا  توجهاً  في الحزب بمحاولة حشد أكبر عدد ممكن من الشخصيات العالمية الوازنة وادخالها الى بيروت، كي يساهم وجودها في ردع العدوان وتشكيل درع بشري عالمي يحمي المدينة او الأصح يصعب على المعتدي الاستباحة الكاملة لكل المعاهدات والمواثيق التي تؤمن الحماية للمدنيين.

في اليونان كان "تيودوراكيس" أول خياراتنا وتم الاتصال مع الحزب الشيوعي اليوناني والتشاور معهم للتنسيق، فبادروا بالموضوع، وقام  الامين العام للحزب آنذاك "خاريلاوس فلوراكيس" بنقل رغبتنا وكذلك رغبة القوى الفلسطنية، فجاء رد ثيودوراكيس بالموافقة الكاملة من دون تردد.

التحضير للزيارة

وخلال التنسيق معه للتحضير لرحلته الى بيروت عبر مطار دمشق ، استفسر مني عن عدد من القضايا وكذلك اخر التطورات الميدانية ، لكن ما استوقفني وأحرجني كان سؤاله عن قائد القوات المشتركة في الجنوب "الحاج اسماعيل" والذي اجتمعنا به وبقيادة القوات في صيدا قبل عدة أشهر اثناء  زيارته الأولى الى لبنان ولفته حينه خطابه الثوري واناقته العسكرية، وعبر لي عن اعجابه به، قائلا لي باليونانية بما معناه "هيدا قبضاي".  كان يستفسر مني عن احواله، وما فعله في المعارك ، وهل قاتل جيداً ضد العدو. فكرت ملياً قبل الاجابة، خاصة ان الاخبار التي  كانت بحوزتي مقلقة وهي تدور حول  انسحابه أو هروبه عند بدء العدوان، ما أدى إلى محاكمته لاحقاً من منظمة التحرير الفلسطينية.  ماذا أجيب امام  رجل نريد إرساله الى قلب الحصار ليقف معنا معرضاً حياته للخطر ، بينما الحاج اسماعيل فعل ما فعل؟!

حسمت أمري على مضض وأجبته، انه بخير  وموجود  في بيروت، واسرعت في تغيير وجهة الحديث كي لا احرج اكثر .

 غادر "ميكي" اثينا الى دمشق وكان يرافقه  الرفيق "جورج ديلاستيك" وهويصحافي من جريدة ريزوسباستيس.  جرى استقباله  في دمشق  ووضعناه  في صورة الاوضاع العسكرية  المتغيرة، وخلال اول محاولة للذهاب الى بيروت تبين لنا بأن الطريق أصبح مقطوعاً بفعل القصف، لكن ثيودوراكيس وكما اعرفه كان مصراً  على الدخول الى بيروت  وبأي ثمن.  دارت نقاشات طويلة معه  لكن إصراره اجبرنا نحن وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية على القيام بمحاولة ثانية عبر الشمال من طرابلس  والطريق البحري،  فذهب براً  الى طرابلس  وعند تقييم الوضع كان هناك اجماع على عدم امكانية الدخول الى بيروت من اي مكان بفعل تقدم الاجتياح والحصار عليها من كل الجهات.  وعندما تمّ إبلاغه بذلك استشاط غضباً وعاد الى دمشق منزعجاً، وقبل عودته الى اثينا عقد عدد من اللقاءات السياسية مع حزبنا ومع منظمة التحرير، وكان معي في تلك الفترة القيادي الشيوعي اليوناني "جورج باباترو" حيث تابعنا كل تفاصيل هذه الزيارة.

عودته وغضبه

عند عودته إلى اليونان، وفور وصوله الى أثينا، ذهبت مع جورج باباترو للقائه، وكنا على علم بغضبه وعدم رضاه عما حصل، وما ان وصلنا حتى صب جام غضبه علينا، ومن جملة ما قاله ، في ذروة غضبه ، أننا نسجنا (أي قيادة الحزب الشيوعي اللبناني والحزب الشيوعي اليوناني) مؤامرة ضده كي لا يدخل بيروت حرصاً على حياته لان الامور كانت تتدهور بسرعة قياسية،  ونعتنا شخصياً بنعوت قاسية ولكننا كنا نعرف شخصيته وطيبته ونتفهم خيبته، كيف لا وهو الذي وضع دمه على كفه وكان مستعداً لدخول بيروت ولو كلّفه ذلك حياته. بعد فترة وجيزة، وشرح للتفاصيل ومصارحة فيما بيننا، وبعد ارتشاف قهوتنا عادت الامور الى مجاريها، وعاد ميكي إلى هدوئه.

أريد أن اغادر هذا العالم شيوعياً

مهما كتبنا عن ذلك العملاق الثوري يبقى ناقصاً، فهو كان شجاعاً، بسيطاً، حالماً، صادقاً، مباشراً. كتبت هذه الذكريات لعلنا نرد له جزءاً مما له علينا وله علينا الكثير. ترحل الآن هذه القامات  العملاقة من العالم، والعالم يتغير، لكن هل يبقى فيه القليل من أولئك؟  

لقد كتبت عن ميكس ثيودوراكيس من خلال علاقتي ومعرفتي  به ضمن إطار  المهام التي كنت اقوم بها في اليونان كممثل للحزب الشيوعي اليوناني ومن ثم كممثل للحركة الوطنية اللبنانية في عقد الثمانينات ولكن غنى شخصيته وابداعاته الموسيقية تستحق وقفة أخرى .

في الختام، اورد ما جاء في وصيته الاخيرة الموجهة الى الحزب الشيوعي اليوناني، والتي كتبها قبل أشهر من وفاته،  وفيها ما يلي:

"الآن في نهاية حياتي، عند جردة حسابي تزول من عقلي التفاصيل الصغيرة وتبقى القضايا الكبيرة. هكذا أرى أحرج وأقوى وأنضج  سنواتي هي التي امضيتها تحت علم الحزب الشيوعي اليوناني .لهذه الأسباب  أريد أن اغادر هذا العالم شيوعياً."  

وداعا ايها  اليونانيّ الكريتيّ الجميل الأصيل.

 

فادي نبوت 

عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني