حدث قبل مئة عام – الجزء الثاني

 
منابع فكر الشهداء
إن الأفكار المؤثرة في البيئة الاجتماعية-الاقتصادية-الثقافية الحاضنة للحراك السياسي الفكري القومي العربي في بلاد الشام لهي نتاج لجهود واختمار واستيعاب كتابات وأفكار من سبقهم، من نهضويّي القرن التاسع عشر ومتنوّريه إلى بدايات القرن العشرين، التي تراكمت منذ المعلم بطرس البستاني وابراهيم اليازجي وأديب اسحاق وفرنسيس المراش وولي الدين يكن وعبد الرحمن الكواكبي ومسرح يعقوب صنوع ولحراك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وثورة أحمد عرابي وخطب عبدالله النديم وصحافته ومحمد رشيد رضا وفرح انطون وشبلي الشميل ونقولا حداد وعمر فاخوري ورفيق جبور وجبران خليل جبران وأمين الريحاني ومحمود سامي البارودي ومصطفى كامل وقاسم أمين ونجيب عازوري وساطع الحصري ورفيق العظم وحقي العظم واسكندر عمون وتقارير الصحافي ابراهيم النجار وكتاباتهم النهضوية وغيرهم الكثير...

كل كتابات هؤلاء وغيرهم ممّن أثّروا تجد لكلماتهم تأثيرها وانعكاسها في مصر وبلدان المغرب العربي حتى في الهند وباكستان واليمن والجزيرة العربية والذي أجّج في الزخم القومي العربي مع كراهية للتركي لم تكن موجودة سابقاً ورغبة متسارعة في التخلص منه، هو الإعدامات بالجملة التي جرت في ساحة البرج (المدفع) في بيروت.
كتاب "الإيضاحات" شكّل مادة دراسية للعديد من الكتاب والباحثين في لبنان والعالم العربي، على الرغم من أنه وثيقة في فن الكذب والخداع والتلفيق على الأحرار العرب والافتراء عليهم، إلا أنه في الوقت نفسه يعطينا أفكاراً غنيةً جداً عن أهمية الحراك السياسي الثقافي الاجتماعي العروبي القومي وحجمه في المجتمعات العربية ووزنه وموقف "الاتحاديّين" من هذا الوعي وكيف تمّت مجابهته. وقد عالجت هذه المرحلة، مؤلفات كثيرة، يمكن الاستفادة منها وتغطي تلك الفترة.
بعض ممّن كتبوا هم رفاق شاركوا في جمعية اللامركزية أو في المنتدى الأدبي- اسطنبول وجمعية بيروت الإصلاحية وتعرّفوا إلى الشهداء عن كثب وكادوا أن يكونوا شهداءً معهم: أسعد داغر كتب (مذكرات شاهد عربي) و( الثورة العربية)، أحمد قدري (مذكرات)، فائز الخوري (مذكرات)، فائز الغصين (مذكراتي عن الثورة العربية)، الخوري أنطون يمين (لبنان في الحرب)، محمد كرد علي (خطط الشام ج3) و فارس نمر(يقظة العرب).
وآخرون عايشوها، أمثال: ساطع الحصري (نشوء الفكرة القومية)، يوسف الحكيم (سوريا في العهد العثماني، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان)، محمد عزة دروزة (نشأة الحركة العربية)، أمين سعيد (الثورة العربية الكبرى)، محمد جميل بيهم (العرب والترك)، يوسف مزهر (تاريخ لبنان العام ج2)، يوسف ابراهيم يزبك (مؤتمر الشهداء)، لطف الله نصر بكاسيني (نبذة من وقائع الحرب الكونية) و فيليب حتي (تاريخ لبنان) و (تاريخ العرب).
وكتب عنها: أنور الجندي (رواد القومية العربية)، سليمان موسى (الحركة العربية 1908-1924)، أدهم الجندي (شهداء الحرب العالمية الكبرى)، فلاديمير لوتسكي (تاريخ الأقطار العربية الحديث)، توفيق برو (القضية العربية في الحرب العالمية الأولى)، ز. ليفين (الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث)، عبدالله حنا ومنير موسى في كتابين منفردين عن (الفكر العربي في العصر الحديث). وكتب البرت حوراني (الفكر العربي) و(سوريا ولبنان) و(تاريخ الشعوب العربية) وكتابين معمقين لزين نورالدين زين. وكتب وجيه كوثراني في دراسته الرائدة لـ (وثائق مؤتمر العربي الأول في باريس) و(الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان والمشرق العربي) وكتب مسعود ضاهر التاريخية الثرية بمعلوماتها واستنتاجاتها. هذه عيّنة مما قد يجد فيه القارئ بعضاً من التاريخ. ومئات المؤرخين العرب كتبوا ولم يلحظوا في مؤلفاتهم الشهداء والحركة العربية التحررية أو الاحتلالات الأجنبية. وحينما يصبح التاريخ وجهة نظر لا يعود بحاجة للنظر.
من المهازل أن نرى مؤرخين عرباً ومسلمين يتباكون على الرابطة الإسلامية العثمانية التي كانت آخر همّ الاتحاديين، التي استعملوها لتسكين المسلمين وتهدئة خواطرهم لتثبيت سلطتهم. وكرّروا استعمالها بعد هروبهم سنة 1918، طلعت في برلين وأنور في مدن القوقاز وأحمد جمال في أفغانستان، وسقوط السلطنة واحتلال الإنكليز وفرنسا لتركيا والبلاد العربية. هذا لم يسببه الشهداء العرب لا من قريب ولا من بعيد. بل جمعية الاتحاد والترقي صديقة الالمان وبعض العرب المروجين للاتحاديين (ما إن خرج آخر جندي تركي حتى بدؤوا بنقدهم وتبيان مثالبهم ونسوا قصائد وخطب المديح والتبجيل والتعظيم التي كانوا يطلقوها. وهؤلاء هم أنفسهم كانوا يصفون الشهداء بالعملاء. وركبوا في قطار الفرنسيين والإنكليز ونالوا حظوتهم فيما بعد.
الأسباب الحقيقية لمجيء أحمد جمال باشا
بعد عشرة أيام من دخول تركيا الحرب جرى إعلام وزير البحرية أحمد جمال باشا "لخبرته العظيمة بالشؤون العربية!" عن مهمة قمع جديدة في بلاد الشام وتكليفه بقيادة الجيش الرابع بدلاً من الفريق أول زكي باشا الحلبي، مطلق اليد مع صلاحيات واسعة لضبط الأمن في سوريا والقبض على اللامركزيين "المجرمين" وإلغاء امتيازات جبل لبنان، مع أنّ مظلة مجيئه المركزية هي التصدي للقوات الانكليزية في قناة السويس.
 أتى وهو مملوء حقداً وكراهية للعرب وللداعين إلى الإدارة اللامركزية في بلاد الشام، ولاستقلال جبل لبنان. ثم قيادة الاتحاديين ارتاحت بأبعاده عن المنافسة القائمة بين الثالوث القيادي (أنور- طلعت- أحمد جمال).
أما في معركة قناة السويس فقد بيّنَ عن جهل في العمل العسكري الميداني، من تقدير للقوى، وفن إدارة المعارك الحربية وقيادة الجيش وتوزيع وحداته وصنوف أسلحته والتعاون في ما بينها في القتال. كان حب العظمة مسيطر عليه. غروره وعجرفته كانت تغطية لعقد نقص ملازمة له.
إن الدماء التي أريقت على ضفتيّ قناة السويس هي مسألة تفصيلية (4500 قتيل وجريح جندي عثماني) لا تستحق عند أحمد جمال باشا أن يتوقف عندها بعدما فشلت مهمته. بل أشاع أنّ مهمته نجحت وكانت مجرد استطلاعٍ لقوة نيران العدو (الإنكليز) في القناة، وأن هذا هو ما كان مطلوباً منه. لم يكتفِ بالكلام بل أقام الحفلات والعراضات العسكرية في شوارع القدس ووجه دعوات إلى السفراء والمسؤولين للمشاركة في احتفال النصر! (راجع كتاب مذكرات جندي عثماني، تحقيق سليم تماري، منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية). وتتكرّر هذه الرعونة في وقتنا الحالي من قبل البعض.
للشهداء وجه واحد
استطاعت جمعية الاتحاد والترقي أن تنجح بحركتها السياسية تحت شعاراتٍ انسانية وبرامج متحررة تعرضت لقضايا أساسية تعاني منها أمم وشعوب السلطنة، وبهذه الشعارات جذبوا مئات الألوف من المؤيدين والأنصار إلى جانبها لمواجهة السلطان عبدالحميد. وعادت الناس والصحف من المنافي، وعادت الحياة إلى الحركة السياسية، والمواكب الشعبية المؤيدة في القرى والمدن. أمّا الذين أبدوا ألمَهم على فراق السلطان من نواب وباشاوات وحاربوا جمعية الاتحاد والترقي في أيامه، هم أنفسهم ألّفوا فيما بعد الوفود المؤيدة للجمعية واستمروا نواباً وباشاوات، نموذج نائب دمشق (محمد فوزي باشا العظم) وأمير الحج (عبد الرحمن باشا اليوسف) وبكوات وأمراء من لبنان ومن ليبيا وتونس وفلسطين وشرق نهر الأردن غب الطلب، بوجه المتنورين الحقيقيين (الشهداء) الذين كان لهم وجه واحد، عارضوا السلطان سابقاً ورحّبوا بالجمعية بما حملته من برنامج شامل. وبرهنوا عن ذلك في الصحافة العربية والتركية، والحياة النيابية في مجلس المبعوثين: بعد عزل السلطان ونفيه إلى سيلانيك. وعودة الحياة البرلمانية الجدية إلى مجلس المبعوثين، شارك النواب العرب عن مناطقهم، وحملوا مطالبها فتصدّى لهم الاتحاديّون نوّاباً ووزراء بمواقف سلبية خيّبت أمل المناطق العربية (بلاد الشام) وخصوصاً لدى مناقشة قضايا أساسية كان يطرحها النواب العرب (الشهداء) من هذه القضايا:
1- مصير الضرائب التي تجمع من الولايات الآسيوية (البلاد العربية) ومدى استفادتها منها، قام بها الشهيد شفيق بك مؤيد العظم وناقشها في اجتماعات مجلس المبعوثين.
2- مسألة الهجرة اليهودية المتزايدة إلى فلسطين وتملكهم للأراضي وإقامتهم للمستوطنات وللمصارف والمحاكم الخاصة بهم والبريد الخاص، ولماذا ألغيت القيود أمام إقامتهم الدائمة وغير الشرعية. تقدّم بهذه المساءلة النائب الشهيد شكري العسلي ونائبا فلسطين حافظ السعيد وروحي الخالدي وموسى الحسيني.
3- حول التتريك والحريات وقضايا مالية واجتماعية في جريدة المفيد لصاحبها وكاتب المقالات الشهيد عبد الغني العريسي إلى جانبه الامير عارف الشهابي.
4- موضوع الصهيونية وأهدافها كان طرحها وكشفها الشهيد شكري العسلي وفضحها من على منبر مجلس المبعوثين والشهيد محمد المحمصاني (الحائز على شهادة دكتوراة الدولة في القانون من باريس) وخطرها القادم في فلسطين جرّاء الاستيطان مع تكاثر وفود المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا وبطلان مزاعمها التاريخية والسياسية.
5- انكشاف أمر الخديوي الجديد (أحمد جمال باشا) لبلاد الشام واتصاله بالفرنسيين للاستقلال بها عن اسطنبول. هذا الأمر انكشف لعبد الكريم الخليل ورضا الصلح وعبد الرحمن الشهبندر واسكندر عمون وأعضاء الجمعيات. وفي (مذكرات عزيز بك) رجل المخابرات التركي إفصاح مفصل عن ترتيبه شخصيّاً لهذه الاتصالات.
هذا غيض من فيض، هذا نموذج بسيط عن حقيقة استهداف الأتراك لهذه الكوكبة من المتنوّرين. لأجل هذه القضايا، التركي قبض عليهم وأعدمهم.
كلمة أخيرة
ما نقوله أبعد ما يكون عن مجرد ردّ اعتبار بل شهادة في وجه من لا يزال يقول بخيانة الشهداء للسلطنة. وذلك للتغطية عمّن وشى، وعمّن تواطأ مع التركي وشارك في تقاسم فتات النفوذ والمكاسب الماديّة. من وشاة من بيروت وجبل لبنان وعكا ودمشق... إلخ.
ولمن يريد معرفة المزيد عن هذه الحقبة فليراجع صحف المؤيد، الأهرام، المفيد، المقتبس، المنار، والمقتطف  خلال عام 1909 حتى عام 1916.
• المراجع:
- وجيه كوثراني، الاتجاهات السياسية والاجتماعية، معهد الانماء العربي في لبنان وسوريا 
- مير صبري، أعلام الوطنية والقومية العربية، دار الحكمة 1999
- خيرالدين الزركلي، الاعلام،  دار العلم للملايين
- أحمد جمال باشا، الإيضاحات، دار الفارابي
- يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان، دار النهار 1991،  صفحة 142 و242.
- فلاديمير لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار الفارابي
- جوزف الياس، تاريخ الصحافة في سوريا، دمشق
- الكونت دي طرازي،  تاريخ الصحافة العربية، 1932
- مسعود ضاهر، تاريخ لبنان الاجتماعي 1914-1926، دار الفارابي 
- عبدالله ابراهيم عبدالله، تاريخ لبنان عبر الأجيال، نوبيليس 2005، مجلد10         
- أمين سعيد، الثورة العربية الكبرى،  دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، صفحة 57     
- حسن سعد، جبل عامل بين الأتراك والفرنسيين      
- سليمان موسىى، الحركة العربية 1908-1914، دار النهار1977
- محمد عزة دروزة، حول الحركة العربية الحديثة،  المكتبة العصرية
- هلال الصلح، رياض الصلح، بيروت
- يوسف الحكيم، سوريا في العهد العثماني، دار النهار 1986
- يوسف خوري، الصحافة العربية في فلسطين، بيروت  1968
- توفيق برو، العرب والترك (رسالة ماجستير)، القاهرة  1961
- ألبرت حوراني، الفكر العربي، دار النهار 1977
- منير موسى، الفكر العربي في العصر الحديث، دار الحقيقة 1973
- توفيق برو، القضية العربية في الحرب العالمية، دار طلاس 1989
- محمد السعيدي،  مذكرات أحمد جمال باشا، الفارابي 2012
- مذكرات بشارة جرجس البواري 
 
  • العدد رقم: 358
`


محمد السعيدي