فضل مصور صحافي منذ 17 عاماً، عمل في عدة صحف ووكالات، ويعمل اليوم في صحيفة "نداء الوطن". صوّر حروباً وأحداثاً أمنية، لكنَّ يومَ الرّابع من أغسطس خطفَ أرواحاً وقضى على نصف مدينة، فيما كان على المصورين الصحافيين التقاط صور لما تبقّى.
توجه فضل إلى المرفأ ليصور. يضع عينه اليمنى على الكاميرا واليسرى يراقب من خلالها، لكنّ أحداثاً كثيرة منعته في ذلك اليوم من التصوير. فور وصوله ساعد عسكريَّيْن يعملان في المرفأ. ما لا ينساه فضل مشهد رجل كبير في السن يبكي ويطلب المساعدة، كذلك شاب ملطّخ بالدّماء يحمل يداً، يتوجّه نحو جثة ويضع اليد فوقها، ليتبين أنها تابعة للجثة. مشهد آخر أجمده. أبٌ يبكي وأمام قدميه ابنٌ ممدّدٌ على الأرض، لا يعلم أحيّاً كان أم ميتاً. بعض المشاهد التي استطاع تصويرها، لم يقوَ على نشرها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، كجثة شاب يعمل في المرفأ علق رأسه في حائط باطون، بعد أن قذفه الانفجار من المرفأ.
بحث عن المستشفيات القريبة ليصور، لكنها كانت مدمرة. سار ليلاً في الشوارع الذي حفظها وسهر فيها، شاهد الدمار وفهم أن ما حدث لا يقتصر على المرفأ. لم يستطع التصوير بسبب الظلام. قرر الهروب من رائحة الدم والدمار. توجه إلى منزله، ليواجه كارثة الانفجار مع عائلته. تدمر زجاج المنزل، ولم يعلم مصير سيارات العائلة. عاش مشاعر متناقضة بين الحزن بسبب القتلى والجرحى والدمار، والفرح لأنه ما زال على قيد الحياة، ولأن عائلته بخير.
شكّل انفجار المرفأ نكسة شخصية لمروان أبو حيدر، وهو مصور صحافي في صحيفة "الأخبار" منذ عام 2006. لحظة وقوع الانفجار، عاد إلى لحظات ضياع عاشها عند اغتيال وسام عيد. يومها وقع من فراشه بسبب الصوت، تناول كاميرته وتوجّه على دراجته النارية إلى مكان الانفجار، متعقّباً الدخان المتصاعد. كان أول مصور يصل. هناك، وقف على تلة رمال، سمع صوت غليان دماء لكنه لم يعلم أنه يصور جثة. تجمد مكانه، حتى إنه صوّر اللقطة عينها 736 مرة.
أدت زحمة السير في بيروت يوم الانفجار إلى مكوث أبو حيدر ساعتين في سيارته. وصل إلى منزله، حمل كاميرته وتوجّه إلى المرفأ، لكنه لم يستطع تصوير الحدث الأساسي. فالموضوع الذي لا يستطيع العمل عليه منذ بدايته يكرهه، وبالتّالي يفقد حماسته.
في اليوم الثاني توجه إلى هناك عند الساعة الخامسة فجراً. بقي لساعتين في حالة صدمة، من كمية الدمار. احتار بين التصوير أو مراقبة ما يجري. في هذه الحالة يتداخل العمل المهنيّ مع الواجب الإنساني. أحياناً يتمّ اختيار القرار الخطأ، وقد تصل الأمور أحياناً إلى خسارة الاثنين. صورٌ كثيرة مرت بجانبه لم يستطع التقاطها، عوضاً عن ذلك بادر إلى مساعدة الناس. يستحضر مروان رجلاً عجوزاً ملطّخاً بالدماء، يحمل رقعة قماش ويزيل بها دمه، يقترب منه، ويساعده ليجتاز الطريق. حتى الآن لا يعلم لماذا لم يصوره.
ليلة الانفجار، وقف على شرفة منزله، ودمعته تقف على عتبة العين، يرى صوراً لافتة، وحزين على دمار مدينة بأكملها. انتهى الانفجار، وهو يشاهد الصور الأولى بقهر، فهو لم يقم بواجبه، وخسر داتا من أرشيفه. لم يرد تصوير النار. الصورة الحقيقية عن بيروت يومها كانت اللون. أراد إظهار هذا الجانب من الانفجار. يعود إلى صورة التقطها بعد أول يوم من انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر عام 2019: كانت بيروت كلها تحترق، والدخان يغطي العاصمة جراء الإطارات المشتعلة. بين حريق بيروت وغبار الانفجار، صورتان تعكسان تغيير المدينة بلحظات.
نزل في اليوم الأول من الانتفاضة الساعة السّابعة مساءً، ولمدة عشرين يوماً بقي 16 ساعة يومياً في الطريق، حياته كانت في الطريق، العمل، الأكل، حتى تغيير الملابس. بدأت تتطور الأمور وتصعب، توسعت بقع الاحتجاج لتطال مناطق عدة. عاش في تلك الفترة أجمل شعور في حياته، رغم التعب الذي استمر طوال 7 أشهر. رأت عينه طوال فترة الانتفاضة أحداثاً وصوراً، رأت شعباً ينتفض، وهو لا يملك تجارب منع انتفاضة، خاصة أنه تمنى تصوير الانتفاضات العربية.
أثناء تصوير إقفال الطرقات، وخلال حديث مع زملائه، توقع فضل أن تفتح الطرقات قريباً، إلا أن ذلك لم يحصل، بل امتد الإقفال لأيام. انتابه شعور من الفرح لفكرة انتفاض الشعب اللبناني، شعر كأن هناك من ضغط على زرّ، فنزل الشعب إلى الطرقات مطالباً بحقوقه. شعور الفرح والانتماء خلال التظاهرات لم يؤثر على عمله، الا أنه ركز لقطاته على الأعلام اللبنانية والأطفال المشاركين في التحركات.
شهدت الانتفاضة أعمال شغب كثيرة، وكان المصورون أول من تلقوا الضربات، فهم الخط الفاصل بين القوى الأمنية والمتظاهرين. حاولوا بعضهم حماية المتظاهرين، عبر توثيق القمع الذي تقوم به العناصر الأمنية. منذ الأيام الأولى للانتفاضة، لبس المصورون الخوذة والقناع الحامي من الغاز، إلا أن العديد منهم أصيب، وجل ما يمكن لنقابة المصورين أن تقوم به هو تقديم شكوى لوزارة الاعلام والمسؤولين الأمنيين، بحسب عيتاني.
تعرّض للضرب مرّاتٍ عديدة في أيام الانتفاضة الأخيرة، فالعنصر الذي يقف طوال النهار ويريد أن ينتهي من عمله، يصب جام غضبه على الصحافيين والمتظاهرين. تعرض أبو حيدر للضرب 4 مرات خلال أعمال الشغب. كان هناك توتر كبير وإرهاق متراكم، والقوى الأمنية متعبة، لذا يقع خلاف وتبادل شتائم وقد تصل الأمور أحياناً إلى الضرب. يشير عيتاني إلى أنه في السنوات الثلاث الأخيرة بات المصورون الصحافيون مكسر عصا، من قبل المتظاهرين والقوى الأمنية.
لا يستطيع فضل التعبير عن مشاعره. يقول إنّه لم يخضع لعلاج نفسي، ويؤكّد أن المدمن على المخدرات يمكن أن يشفى من إدمانه، لكن ما مر به لا يمكن أن ينزعه من رأسه. فيما لم يتأثر مروان على الصعيد الشخصي بأي حدث لقدرته على فصل العمل عن الشخصي، فهو يتعامل مع أي مشكلة عبر تحويلها إلى مشروع عملي. ثمّة رابط بينه وبين الصورة الذي لا يمكنه شرحه، فهو يتعامل مع الصورة بدرجة أساسية كموضوع، وثانياً بطريقة فنية – صحافية.
يتشارك المصورون الصحافيون الشغف عينه أثناء توجههم لتغطية الأحداث الأمنية، إلا أنّ الأذى النفسي الناتج عن رؤية أفراد متضررين، وعدم القدرة على المساعدة، يؤدي إلى اكتئاب، ومع الوقت إلى أمراض جسدية. يشير المحلل النفسي والطبيب فرانز الكسندر إلى أنّ أمراضاً عدة تنتج عن صراعات في اللاوعي، إذ يربط ارتفاع ضغط الدم بالغضب المكبوت، والربو بقلق الانفصال، والقرحة بالرغبة اللاوعية في البقاء في وضع الطفولة المعتمد، ليكون محبوباً ومعتنى به.
في هذا الإطار، خلصت دراسة لألينا نيومان وروجر سيمبسون ودايفد هندشوه إلى أنّ ما يقارب 6% من المصورين الصحافيين الذي خضعوا للبحث، أظهروا عوارض تتفق مع اضطراب ما بعد الصدمة، وهذا المعدل يتوافق تقريباً مع المعدلات في عموم السكان. وكشفت البيانات أنه كلما زاد عدد مهام تصوير الـحداث الصادمة، ارتفع مستوى المحنة عند الصحافيين. وعلى الرغم من تعرضهم للصدمات، أفاد فقط 11% من المصوريين الصحافيين أنهم تلقوا النصح من أرباب عملهم حول التأثير العاطفي المحتمل للوظيفة.
وثق طبيب النفس العصبي الدكتور أنتوني فينشتاين تجارب 18 مصوراً صحافياً في كتاب "shooting war: 18 profiles of conflict photographers"، عارضاً صوراً فوتوغرافية لهم، وصوراً التقطوها في مناطق نزاعات مختلفة، وعقود مختلفة، من سوريا وأوكرانيا وبولندا وفيتنام وهاييتي، وغيرها، وذلك بهدف فهم ما يجري مع النساء والرجال وراء الصور الرائعة التي نجدها مقنعة ومتحركة، وأحياناً محطمة.
يؤكد فينشتاين في المجلد على "الضرر المعنوي" الذي يتكبده العديد من المصورين الصحافيين، ويعرِّفه بأنه الإضرار بضميرهم أو بوصلتهم الأخلاقية بعد مشاهدتهم أو عدم التدخل في أفعال لا تتماشى مع أخلاقهم. شرح فينشتاين الوضع النفسي للمصورين، مع عرض الأحداث التي عايشوها، وأجرى مقابلات مع المقربين منهم لكشف تجاربهم، وصحتهم النفسية. يظهر ديفيد جوتنفيلدر، الذي صوّر مجازر رواندا في عام 1994، في الكتاب وهو "يضحك على عدم قدرته على التخلص من استجابة مفاجئة بارزة، وهي العلامة الفسيولوجية المستمرة للصدمة العاطفية التي تحملها وتغلب عليها". لا تزال الفظائع التي شاهدها المصور تؤثر على تحركاته وردود فعله اليومية. في فريتاون، سيراليون، هاجمت مجموعة من ثلاثة رجال سيارته، بينما كان يستقل قافلة مع المصور مايلز تيرني والكاتب إيان ستيوارت. مات تيرني واستقرت رصاصة في دماغ ستيوارت (على الرغم من أنه نجا في نهاية المطاف، بمساعدة جوتنفيلدر). أثناء الهروب، واصل جوتنفيلدر التقاط الصور. الأمر الذي انعكس عليه بحسب فينشتاين، في مزيج من المشاعر المتناقضة، بين "النشوة والامتنان للبقاء على قيد الحياة بالتناوب مع ذنب الناجين"، فباتت الكوابيس تلاحقه يومياً.
يوم يعود المصورون الصحافيون من مناطق الخطر سالمين جسدياً، تبقى الآثار النفسية تحفر في ذواتهم، بتكلفة لا يراها الجمهور في المادة الإخبارية. واكب مايكل وور حرب العراق لسبع سنوات، وثّق أحداثها، وعاد محمّلاً بألم يحاول التعايش معه يومياً. في مقابلة مع لاري كينغ، يشرح وور معاناته مع اضطراب ما بعد الصدمة، فهو يعيش مع الأشباح، ذلك أنّ ما رآه لا يمكن أن يمحيه من ذاكرته، ولا علاج له. عايش الحروب طوال 10 سنوات من حياته، مما شكل له صدمات نفسية. يلاحق وور الأخبار والقصص. اندفاعه إلى تغطية الحروب يعود إلى رغبته بفهم طبيعة هذه الصراعات وماذا نفعل بأنفسنا خلال هذه الصراعات. هناك متعة بالتواجد في بقعة موت تخرج منها حياً. بعدها يصبحُ للقهوة طعمٌ آخر، وشروقُ الشمس يصبح أجمل، والعالمُ كلُّه لا يعود كما سبق.