حاولت القيادة العسكرية السابقة التي كانت بقيادة الجنرال المتوفي "أحمد" قايد صالح الإبقاء على النهج السياسي الذي طبع مرحلة عبد العزيز بوتفليقة والمتمثّلة بتقليص تأثير الجيش في العملية السياسية للإستئثار بالحياة الإقتصادية والتجارية واشتغلت لسنوات طويلة لمحو أثارها بدايةً عندما أزاح بوتفليقة الجنرال توفيق عن منصبه في قيادة جهاز المخابرات وقلّم أظافر العديد من الضباط المقرّبين منه.
مع بداية الحراك الشعبي الكبير الرافض التجديد لبوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة برز توجّهان في التعاطي مع ذلك الحراك؛ الأول، قاده الجنرال قايد صالح الذي أراد التعامل معه بشكل إيجابي، حيث قضت أوامره العسكرية بعدم الاحتكاك مع المتظاهرين الذين طبعوا غالبية المدن الجزائرية بطابعهم الخاص، بل هو عمل على حمايتهم. الثاني، تمثّل بتوجّهات بوتفليقة والدائرة الضيّقة حوله من المنتفعين، القاضية بمواجهة المتظاهرين بغضِّ النظر عمّا يمكن أن تؤدّي إليه تلك المواجهات ومآلاتها النهائية.
في هذا الوقت، وقبل أشهر قليلة من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة في نيسان / افريل سنة 2019، بدأ الصراع يتبلّور بشدّة بين بوتفليقة والدائرة المحيطة به وبين رئيس الأركان الجنرال قايد صالح والضباط المحيطين به، وأصبحت التحالفات مفتوحة ومباحة لكلا الطرفين؛ فجماعة بوتفليقة بقيادة شقيقه سعيد بدأوا ينبشون في الأوراق القديمة وتيقنوا أنهم بحاجة للاستعانة بالجنرال الذي عزلوه توفيق كونه الأعلم بخبايا السياسة والعسكر، وهم يعرفون أيضاً أن هذا الأخير على خلاف كبير مع رئيس الأركان قايد صالح، فكان عند حسن ظنّهم. عِلماً أن فريق بوتفليقة كان قد وجّه انتقادات لاذعة لتوفيق مثلما فعل رئيس المجلس الشعبي (البرلمان) عمّار سعيداتي في أكثر من قضية، وبالرغم من كلِّ ذلك فقد ذكرت مصادر عليمة أن توفيق اجتمع بفريق بوتفليقة سرّاً في البداية، بحضور سعيد بوتفليقة وعدة جنرالات فنصحهم بزيارة رئيسة حزب العمال لويزة حنون والرئيس الجزائري الأسبق الأمين زروال لأخذ مباركتهم فيما هم يتجّهون الى فعله لجهة قمع الحراك الشعبي.
غير أن كلمة الحراك كانت حاسمة ولم يتراجع الشعب الجزائري عن مطلبه الذي تحقّق باستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وجرى إقرار تعديلات دستورية جوهرية لم تشهد الجزائر مثيلاً لها منذ الإستقلال. لقد جاء قرار المحكمة الاستئنافية ببراءة الجنرال توفيق وايضاً الجنرال بشير طرقاق رئيس المخابرات السابق ورئيسة حزب العمال لويزة حنون وسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس بوتفليقة الذي استبقي بالسجن بتهم تتعلق بالفساد، ليصحّح قراراً سابقاً قضى بالسجن لمدة خمسة وعشرين سنة بتهمة التآمر على البلاد وعلى المؤسسة العسكرية، وهو كان قد صدر في خلال وجود الجنرال قايد صالح في منصب رئيس الأركان، والذي كان هو الحاكم الفعلي للجزائر منذ استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لغاية وصول الرئيس عبد المجيد تبون الى قصر الرئاسة. والجدير ذكره بعد أربعة أيام من استلام تبون لرئاسة الجمهورية توفي الجنرال قايد صالح الأمر الذي انعكس إيجابياً لمصلحة الرئيس تبون ليقود البلاد من دون ضغوطات كان سيتعرّض لها من المؤسسة العسكرية بقيادة صالح.
ترافق ذلك مع هجمة كبيرة استهدفت الجنرال المتقاعد خالد نزّار وأبنائه الذين غادروا البلاد باتجاه اسبانيا حيث إلتزم نزّار الصمت في المرحلة الأولى مترقّباً ما سيكون عليه الحال في البلاد بعد استلام تبون الرئاسة وتنصيب الجنرال شنقريحه بفترة محدّدة.
تزامناً، وبعد وفاة قايد صالح، أصدر الجنرال خالد نزّار بياناً ثمّن فيه دور المؤسسة العسكرية في الحفاظ على وحدة وأمن البلاد، وبدأ مفاوضات سرّية مع القيادة العسكرية الجديدة أفضت الى عودته وإعادة الإعتبار الى الضباط الذين سجنوا في فترة قايد صالح وإطلاق سراحهم. كما أن العلامة الفارقة التي أظهرت حسن العلاقة المستجدة بين رئيس الاركان الجنرال سعيد شنقريحه وبين الجنرال السابق بن حديد كانت ظهرت في أحد الاحتفالات الرسمية كرسالة من شأنها تغيير النظرة تجاه العسكريين المعارضين لسياسة قايد صالح، رافقها حملة إعلامية مركّزة قامت بها صحيفة الوطن، الناطقة باللغة الفرنسية والمعروفة بعلاقتها الممتازة بأصحاب القرار، استهدفت شركات أبناء قايد صالح والامتيازات التي حصلوا عليها بغير وجه حق في أثناء وجود والدهم على رأس القيادة العسكرية.
المسار السياسي والعسكري الذي سبق يؤشّر بوضوح الى أن صفحة جديدة قد فتحت في الجزائر، وتنتظر الرئيس عبد المجيد تبون استحقاقات مهمة لجهة إجراء تغييرات كبيرة على الصعيد الحكومي وأيضاً على مستوى وُلاة الجمهورية في محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه على الصعيدين الإقتصادي والاجتماعي من دون أن يغيب عن البال أن الجزائر ومؤسساتها العسكرية تواجه في الفترة الحالية ما يدور على حدودها الغربية بشكلٍ خاص بعد قرار التطبيع المغربي مع الكيان الصهيوني واعتراف إدارة ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، بخاصة بعد ورود معلومات تفيد بأن الكيان الصهيوني بدأ بإقامة قاعدة عسكرية في المغرب تبعد حوالي ثلاثين كيلو متراً عن الحدود الجزائرية، وهي مزوّدة بوسائل تجسّس واتصال متطوّرة تغطّي مساحات واسعة من الأراضي الجزائرية، الأمر الذي حتّم تشاور الجنرالات فيما بينهم لجهة وضع الخطط الّلازمة لمواجهة المخاطر المرتقبة ولا سيما أن القيادة والشعب الجزائري يرفضون بشكلٍ قطعي أيَّ شكلٍ من أشكال التطبيع مع اسرائيل. فالمؤسسة التي قدّمت مئات الشهداء في العشرية السوداء في مواجهة الإرهاب وتمكّنت من حماية وحدة البلاد التي تعزّزت مؤخراً في وضع مادة دستورية جديدة تتعلق باللغة الامازيغية، لن تفرّط بما تحقّق وهي مدعوة، بحسب مصدر سياسي معارض، إلى وضع خطوات جديّة من شأنها تحقيق إصلاح اقتصادي واجتماعي يعيد الثقة للشباب بوطنهم ويفتح لهم آفاق مستقبلية مشجّعة. إضافة إلى ذلك، هناك عشرات الآلاف من الجنود الجزائريين مرابطين على الحدود مع كلٍّ من مالي والنيجر وتونس وبخاصة ليبيا التي أصبحت خاصرة موجعة هي الأخرى، نظراً للدور التركي المتعاظم فيها. مع ذلك فالمخاطر والصعاب لا تقف عند هذا الحدّ فالاحتياطي من العملة الصعبة بدأ ينضب الأمر الذي سيضع البلاد على مقربة من اتخاذ قرار الإستدانة وهو ما سنتناوله في مقالة أخرى.