في مدن الشرق، تلك المدن الّتي تأسست منذ بدء الخليقة، وجبلت أبنيتها بتراب تعمّد من دماء الفقراء والمهمشين، وسلب أسيادُها تعب الكادحين الساعين في كل لحظة ودقيقة إلى الإرتزاق والعيش الكريم، أجل في هذه المدن نجد لازمة ترافق الإنسان منذ أن وُجد: سياط تلسع جلده، سياط الفقر والإستبداد والمعصية والطغيان.
لنخرج إلى المدينة في صباحياتها، مدينة خالدة في شرورها، حيث تخترق وعيك صور ومشهديات خانقة، لعبة الإنحدار والتفاوت الإجتماعي.
وحين تدرج في شوارع المدينة الغارقة في غمامة من نقمة وسديم من عوز، يصعقك بائع اليانصيب الّذي يسير مع إبنته الصبيّة المراهقة الّتي من المفترض أن تكون في المدرسة غير أنّها آثرت مشاركة والدها في دورة العمل علّها ترفده بدريهمات ولو قليلة، تعينه على الإستمرار في عجلة الحياة الرهيبة.
أجل إنها المدن الخالدة الّتي تؤبد للفقر، مدن خالدة لأنّها إحترفت المكر والشّر والفاقة والهوان، مدن خالدة بناسها الأشباح، الّذين فقدوا إنسانيتهم وإحساسهم أنهم بشر.
يقول ماركس:
"الفقر لا يصنع ثورة، وإنّما وعي الفقر هو الّذي يصنع الثّورة... الطّاغيّة مهمته أن يجعلك فقيرًا، وشيخ الطّاغيّة مهمته أن يجعل وعيك غائبًا".
في هذه المدن الخالدة في غيّها وظلمها، يتم قتل الوعي في الجينات، في عامل الوراثة يقتل الفكر والشعور والتفكير قبل أن يولد الإنسان، ويوم يولد إلى هذه الحياة، يخلق وقد فارقته الحياة، يولد ميتًا، لا نسغ فيه ولا خير يرتجى.
في هذه المدن الخالدة، يستطيع أي كان أن يتحكم بناسها، وغالبًا ما تلقى تبعات المآسي على الأفراد، ويحمّلون أسباب الشقاء والعذاب، وهم يقتنعون بهذا الفرح ويرضخون له.
يقول إميل سيوران:
"تكشف الثورة عن فائدتها إنطلاقًا من كونها عالم دمار، وإن بدت ضارّة فلديها ما يكفّر عن سيّئاتها، كونها الوحيدة الّتي تعرف أي نوع من الرعب تستعمل لزعزعة عالم الملّاكين وهو أبشع عالم يمكن تصوّره".
وبعد... إلى متى ستبقى هذه المدن خالدة في سوئها وخطيئتها، وإنسانها مسحوق؟
من ينتظر يوم القيامة فإنّ القيامة قد قامت منذ أزمنة بعيدة، لكن مشكلة الإنسان أنّه لم يلاحظ ذلك وظلّ رأسه مدفونًا في التراب.