أمّا الشاعر فلا يجد سوى التعبير ،قوة تنبع من داخله والكلمة الشعرية المتحررة من كلّ قيد ؛ ليعلن من قلب مجروح وصدر مكلوم، عن تطلعاته ومقاصده، وحين كتبت سهاد شمس الدين، لم تغال ولم تتقنّع ؛بل أرادت أن تنقل ما يختلج في قلبها من شجن وقلق وانقباض جراء ما يحصل ، هي الخائفة على الحريةّ والإنسان والمستقبل والوطن والوجود والكيان البشري والفكري وروح الإنسان في المطلق، والقيم والحريّة والعدالة الاجتماعية ككلّ. فتقول في قصيدة -إذا- وبكل شجاعتها المعهودة:
هل سيعود استعمار جديد بأفكار جديدة
يستحوذ على عقول المارة
في شوارع تسكنها الأشباح؟
دائما يكون الشاعر رائيا عابرا لسنوات ضوئية من الانقشاع، يرى بعين عاطفته الشعرية ما لا يراه العامة في غفلتهم وبؤسهم ، وما يراه من ناحية أخرى بصورة جليّة وخبث مريب ؛ أهل السياسة وصانعو المجازر والقلاقل وملتهمو الشعوب ! المسؤولون عن كل اوجاعنا
هؤلاء "الحيوانات " الكاسرة ، هم فعلا من يعمدون إلى قمع المفكرين والأدباء والبسطاء والانقياء الأبرياء وعلى رأسهم الشعراء إذ تقول سهاد:
لقد ذهب المتعجرفون بعيدا في أفكارهم
حين قرأوا قصائدي...
ليس هنالك كالشعراء في التعبير عن ظلم الحكام في الوطن العربي، ومن ورائهم زبانية الحقد والشيطان وكلاب السلطات المسعورة ، وقد أطلقت عليهم سهاد لقب المتعجرفين وذلك لرقّة في طبعها وسموّ في أخلاقها و يا ليت تقتصر الأمور على العجرفة فحسب!
يقول الشاعر العراقي أحمد مطر في في قصيدة تحت عنوان : احتمالات :
ربما الماء يروب ،
ربما الزيت يذوب،
ربما يحمل ماء في ثقوب،
ربما الزاني يتوب
ربما تطلع شمس الضحى من صوب الغروب،
ربما يبرأ شيطان ، فيعفو عنه غفار الذنوب،
إنما لا يبرأ الحكّام في كل بلاد العرب من ذنب الشعوب.
هذه الشعوب المهدودة من الاملاق والفقر والاستغلال والعبوديّة، هي بالنسبة إلى سهاد قضية محقة، قضية ثورة وتحرّر ، قضية رفع الصوت إلى أبعد الحدود وإلى ما وراء الطبيعة البشرية؛ وما فرض من خطوط حمر هي في الحقيقة.نتاج الخوف والرجعيّة.
في رؤيتها الشعريّة تتعمّد سهاد إلى هذا النوع من خطاب سام، تحرري ، نقي يفترض النفاذ من العدم إلى الوجود ، من الظلام إلى النور قائلة :
وحدي أنا أقود ثورة المساكين
في سوق النخاسة...
وتقول أيضا : أصبحت ثوريّة..
وهذا دليل على تحوّلات في ذات الفرد ، تشبه تحوّلات الفصول ، والنضج وبلوغ الذات إلى ذروتها في الحقيقة والوجود..
سنة 1985 قال الصحافي الشهيد جبران غسان تويني هذه الكلمات :
ثوري أيتها الأكثريّة الصامتة، لئلا يكتب عنا و عن وطننا على لوحة من الرخام هنا انتصرت جمهورية القتل على جمهورية الفكر والحريّة...هنا كان لبنان.
ذهب كلام جبران تويني إلى مصاف النّبؤة فهل من يتعظ؟! وهل من حاكم يرتدع؟! وهل من شعب يستفيق من سبات طال كثيرا؟
سهاد شمس الدين ابنة كفاح طويل في المدى الشعري وفي كل كلمة تقولها تفوح عطور ثورة لا ريب آتية!...
القصيدة :
إذا...
ها هو معصمي فارغ من أساور الذهب
وقد أصبحت في نظر المتعجرفين
ثوريّة
وليَ الحق
أن أتحدّث عن قضايا وطني
كرياضةٍ يوميّة
المُتعجرفون...
هم أنفسهم من ذرّوا رماد الوطن
في سوق الذهب
وهم أنفسهم من جفّفوا ملح البحر
وأصطادوا كلّ السمك...
لكن معصمي الآن يخلو من أساور الذهب
وحده إصبعي الرابع
يحتفظ بدائرةٍ من الفضّة
فيها حجر أسود
ربّما اسوَدّ من ليلٍ طويلٍ
لم ينجلِ حين صاح الديك
على مقربَةِ من ثعالب تُعبَد...
وحدي أنا أقود ثورة المساكين
في سوقِ النخاسة
وأتحدّث معهم بلغة مفهومة
عن شيءٍ غير واضح الأبعاد بعد
تحدّثت عن الحريّة حين تصبحٌ عِبئاً ثقيلاُ
وتحدّثت عن أغلالِ من معادنَ نفيسة
تُساق بها الإنسانية إلى حتفها الأخير
ومن ثمَّ...
غسلتُ جِلدي أمامهم من آخر استعمارٍ
مرّ بالوطن
وهذا كلّه يكفي
يكفي لأنزِع عن معصمي سِوار الذهب
لقد ذهبَ المتعجرفون بعيداً في أفكارهم
حين قرأوا قصائدي..
هل ستحدث ثورة
هل سيعود إستعمارْ جديد بأفكارٍ جديدة
يستحوذ على عقول المارة
في شوارعٍ تسكنها ألأشباح؟
هل سيُسرق الرجال
وتُسبى النساء؟
هل سيزدهر سوق المُرضعات
وتموت الأمهات مع آخر طَلقة من الألم؟
أيّها المتعجرفون
في يدي قلم
وفي صدري وطن
حتى ولو كانت أغلالكم من ذَهَب
سأبقى في عرين الشمس
أسابق الفجر
لأرسمَ في عيون المُتعبين الأمل....
سهاد شمس الدين