وكذلك بحماية الأقاليم الانفصالية شرق البلاد، تلك التي يتحدث معظم سكانها اللغة الروسية. لكن التوغل في تفاصيل الأزمة، يوضح أن أهداف فلاديمير بوتين تتجاوز تلك المعلنة بكثير، فمن يفكك طبيعة النظام البوتيني، وطبيعة المصالح التي تحركه، يدرك أن ردع "الناتو ما هو الا جزءٌ بسيط من أسباب الغزو. هذا الرأي دعمه بشكل أساسي خطاب بوتين الأخير قبل ساعات من بدء العمليات العسكرية، والذي خصص قسماً كبيراً منه لتكرار سردية تاريخية يتبناها القوميون الروس، عن كون أوكرانيا "خطأً تاريخياً". الخطأ، بحسب بوتين، هو من صنع البلاشفة، وقد بدأ في عهد فلاديمير لينين على رأس السلطة السوفياتية، بإقراره مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، الأمر الذي اعتبره بوتين، صراحةً، عملاً ضد مصلحة روسيا العليا، ولا نعلم إذا بعض الشيوعيين المتحمسين لبوتين قد سمعوا هذا المحاججة. هذا الخطاب أكد أن الهدف أبعد بكثير من مجرد الرد على تهديدات الغرب العسكرية، أو لحماية أقلياتٍ عرقية مظلومة، وأن أطماع بوتين التوسعية، قد حان وقت تحقيقها.
بالعودة لردات الفعل، فقد اختلفت باختلاف التوجهات السياسية بطبيعة الحال، باختلاف أدوات التحليل المعتمدة. الاتجاه الأول كان ميالاً الى الكوميديا السوداء، فهناك من يعتبر جدياً اليوم أن الروس هم الامتداد الطبيعي للاتحاد السوفييتي، كقوة كبرى تحاول العودة إلى مجدها في سبيل مواجهة الإمبريالية الغربية وأطماعها، ومساعدة شعوب الدول المضطهدة. هكذا اتجاه يعطي انطباعاً واضحاً بأن أصحابه في انقطاعٍ متواصل عن الواقع منذ عقود، غارقين في رومانسياتٍ وروابط متخيلة، لدرجة التعامي عن المعاداة الصريحة للإرث السوفياتي من طرف بوتين.
الاتجاه الثاني، وهو أكثر تركيباً بقليل، يدعي أنه واعٍ لكون روسيا دولة قومية لا تعبأ بمصالح الشعوب، لكن رهانه على الروس مبني على فكرة أن أي قوة تواجه العدو الأول، أي الإمبريالية الغربية وحلفائها (النظام الأوكراني الحالي)، هي تسدي خدمة لكل مستضعف في هذا العالم. ينطلق هذا المنطق من فكرة ان الانتقال الى عالم متعدد الأقطاب، ووجود توازن بين القوى الكبرى في الغرب والشرق (الصين وروسيا)، سيسمح لشعوب منطقتنا، ولغيرها، بأن تلعب على هامش التناقضات بين هذه القوى لتحقيق مكاسب معينة، تكون قوة دفعٍ إلى الأمام في سبيل التحرّر والتقدم. يتناسى هؤلاء، كما تناست أجيال يسارية سابقة، الأمثلة التاريخية الراسخة عن قوى قومية صاعدة، هللت لها الشعوب المضطهدة لكونها تحارب القوى التي تضطهدها مباشرة، لتكتشف لاحقاً أن القوى الصاعدة نفسها لن توفر جهداً في سبيل تكرار هذا الاستغلال والاضطهاد تلبية لمصالحها - ألا يحمل النظام البوتيني بشكل واضح في أحشاءه بذور إمبريالية توسعية، لن تتوانى لحظة في استغلال مقدرات شعوبنا المسحوقة، وتقاسم النفوذ فيها تماما مثل الامبرياليات السابقة عليه؟ - هذا التيار يجد أسسه في أفكار قسم كبير من يسار القرن العشرين القومي في منطقتنا، ذلك الذي راهن - وما زال - على أنظمة قمعية تبنت قضايا الشعوب المحقة وظهرت في مظهر الصديقة لها، قبل أن تتخلى عنها عند أول إحتمال صفقةٍ تحملُ بعض المكاسب الضيقة لها.
في المقابل، هناك من انساق وراء السردية الغربية التي تحاول الإيحاء بأن المعركة السلافية هي معركة الخير ضد الشر، وديمقراطية ضد ديكتاتورية توسعية. سردية تسقط عند أول تشخيصٍ حقيقي لطبيعة نظام فولوديمير زيلينسكي، الذي يعتبر نتاج تحالف ليبرالييّ أوكرانيا مع قواها القومية اليمينية، القوى الأخيرة التي وصلت فيها الحال إلى سطوة متصاعدة للنازية الجديدة، خاصة بعد ثورة اوروميدان عام ٢٠١٤. زيلينسكي الذي قبل على نفسه أن يحول أوكرانيا إلى بيدق في يد الناتو - الذي يعتبر، وبمجرد وجوده اليوم، اعتداءاً واعلاناً للحرب، فما بالك بتدخلاته ومجازره؟ - لتطويق روسيا والضغط عليها، وهو الهدف الذي على أساسه استمر تحالف الناتو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لذلك يعتبر النظام الأوكراني مسؤولاً كبوتين عن هذا الغزو.
إضافة الى ذلك، وبمقارنة بسيطة بين النظامين الأوكراني والروسي، سنجد التشابه الكبير في البنى التي تؤلف كلاً منهما. فكلا النظامين يتشاركان توليفةً تجمع كبار الاوليغارشيين والليبراليين مع اليمين القومي. هذه المقارنة التي تجعل أي تبرير روسي للغزو بالسعي لإجتثاث النازية - الموجودة فعلاً في أوكرانيا بنسبة معينة - مبالغةً وتضخيماً لحجم هذه النيو- نازية .
وعليه، الموقف من الحرب، لا يعقل أن يخرج من دائرة الرفض التام لها ولأسبابها وتبعاتها. أما الإيحاء بأن هذا الرفض يعتبر موقفاً سلبياً ورمادياً، وحبسنا في ثنائية اختيار أحد الأطراف المتقاتلة، فهو مردود على أصحابه. فرفض الحرب، التي لا تفيد إلا طبقة محدودة من الحكام وأصحاب رؤوس الأموال ومصانع الاسلحة وأصحاب المشاريع القومية وغيرهم، هو موقف قائم بحد ذاته، هو طرف ثالث موجود مهما ضعف، في مواجهة الأطماع التوسعية البوتينية والعدوانية الغربية على حد سواء.
فمن يعتبر نفسه في صف الشعوب، لا يمكن أن يذوب في تفاصيل الجيوبوليتيك - على أهميتها كأداة لتحليل وفهم عالمنا اليوم - ولا يمكن أن يتبنى وجهات نظر زعماء وطبقات ترى في هذه الحروب تحقيقاً لمصالحها الطبقية/ الشخصية/ القومية البحتة. ومواقفنا تنطلق بشكل أساسي من تبعات هذه الأفعال على الشعوب مباشرة، قبل أي شيء آخر.
ومعارضة الحرب هذه، ليست من باب رفض الحرب كمفهوم مجرد، كما يسوق أنصار المفهوم الليبرالي للسلام، بل هو معارضةٌ لنوع محدد وواضح من الحروب. بلا أدنى شك لدينا في شرعية الحروب الطبقية، وكذلك حروب التحرر القومي والوطني من سطوة الاحتلال والاستعمار. أما حروب التوسع، المدعومة بسرديات قومية ضيقة، والتي يحاول البعض إظهارها بمظهر حروب "اعادة التوازن للعالم" - وهي كذلك فعلاً، لكنها إعادة التوازن بين الامبرياليات الصاعدة والمسيطرة في العالم فقط - كما هو الحال في نزوة بوتين الاخيرة، فهي لا تعود على الشعوب إلا بمزيد من مخاطر الحروب الكبرى المدمرة، وصعود الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة.
وربما لو اقتصرت الحملة الروسية على أعمال عسكرية محدودة، هدفها المباشر إلزام النظام الأوكراني على التفاوض مجدداً في قضية الإنضمام لـ "الناتو"، لربما كان ممكناً تصنيف هذه المغامرة في إطار الدفاع المشروع عن النفس في وجه العدائية الغربية للشعب الروسي. أما الخطاب الشوفيني المعتمد على مفهوم "روسيا الكبرى"، وتصحيح أخطاءٍ تاريخية من وجهة نظر القوميين الروس، فلا يمكن اعتباره إلا اعتداءً مباشراً يندرج في إطار اعتداءات الأمم الكبرى وأطماعها في الدول الأضعف منها.
قد يحاجج البعض أن هذا الرأي الثالث "السلبي" ضد الحرب وأطرافها، لا قيمة له ولا تأثير في عالم يسيطر عليه منطق أن الحق هو في صف من يمتلك القوة، وأن هذه الفلسفة قد ثُبِتَتْ في ميادين العلاقات الدولية منذ قرون. يتجاهل هؤلاء - ومنهم، للأسف، يساريون - أن هذا النظام القائم في العلاقات الدولية، كان تاريخياً مبرراً لكل استغلالٍ واستعمارٍ واضطهاد قامت به دولة بحق دولة أخرى، وأن ثبوت هذا النظام لفترة طويلة من الزمن، لا يعني اعتباره قدراً طبيعياً سيحكم السياسة والعالم الى الأبد. فليسأل هؤلاء أنفسهم: ما هو العالم الذي أنتجه هذا النظام من العلاقات الدولية وسياسات القوة المتبادلة بين الدول؟ أليس البؤس المتزايد في معظم بقاع الأرض اليوم، دليلاً على الحاجة للسعي وراء إنتاج فسلفاتٍ جديدة تحكم العلاقات بين الأمم، بعيدا عن الأفكار الشوفينية؟
من جهة أخرى، من حقنا، كأبناء منطقةٍ عاشت نير الاستعمار والاحتلالات لعقود، الشعور بالحقد والغضب جراء المعايير الغربية المزدوجة في التعامل مع مآسي العالم، فالعقوبات التي انهالت على الروس، نظاماً وشعباً، لم يُعتمد ولو جزء يسير منها عندما كانت شعوب منطقتنا في أمس الحاجة إليها، في وجه آلة القتل والفصل العنصري الإسرائيلية. ولكن في المقابل، يجب الانتباه كي لا تستعمل مآسينا كرافعة لمصالح امبريالياتٍ صاعدة، وأنظمة قمعية تصور نفسها في مظهر صديقة الشعوب، وهي نفس الخديعة التي استعملت مراراً وتكراراً منذ منتصف القرن العشرين. لذلك، الرد على هذه الازدواجية الفاضحة في التعامل مع آلامنا، والرد على العنصرية البيضاء في التفريق بين حروبنا وحروب أصحاب العيون الملونة، لا يكون بتأييد غزواتٍ قومية تحمل تطلعاتٍ امبريالية. فحق شعوبنا المشردة وأراضيه المسروقة، لن يُستحصل بتشريد شعوبٍ أخرى وسرقة أراضيها. ذلك أن قضايانا المحقة لن تجد حلها في مغامرات فلاديمير بوتين (أو غيره) التوسعية في شرق أوروبا، أو في أواسط آسيا، أو في أي بقعةٍ جغرافيةٍ أخرى.
إن الأمل بتحرر الشعوب عبر ثوراتٍ تحصل من الاسفل، ومهما أصبح بعيد المنال أكثر وأكثر، خاصة في عالم اليوم الذي نشهد فيه اضعف عصور اليسار والايديولوجيات التحررية، هذا الأمل "الطوباوي" يظل، ورغم الشكوك وخيبات الأمل المتوالية، يظل أكثر واقعية من وهم الحصول على هذا التحرر عبر "اللعب" على التناقضات بين القوى الامبريالية الكبرى، أو عبر هدية ستقدمها قوة قومية صاعدة، وكأن هذه القوة يمكن أن تكون يوماً معنيةً بقضايا شعوبنا ومظلوميتها.