نتج عن هذا العجز السنوي زيادة بأكثر من 30 مليار دولار في دين لبنان العام منذ عام 1992 (أو حوالي 40 ٪ منه) ، مع الحاجة إلى حوالي 2.4 مليار دولار سنويّاً لتغطية الفائدة على خسائر شركة الكهرباء الوطنيّة فقط. وبالتالي فإن مستهلك الطاقة المحلي مثقلٌ بعبئين وازنين: دين عام متصاعد تحاول تغطيته الحكومة عبر فرض ضرائب على الاستهلاك مستهدفةً الفئات المهمّشة، بالإضافة إلى فاتورة كهرباء مزدوجة، الأولى رسميّة تابعة لمؤسسة كهرباء لبنان بينما الثانية تفوقها بمرّتين وهي لمافيات قطاع المولّدات الخاص. وبذلك يصبح اللبنانيون أكثر مستهلكي الكهرباء دفعاً في المنطقة . بالإضافة إلى ذلك ، فإن تكاليف انقطاع التيار الكهربائي تؤثّر سلباً وبشكل كبير على الاقتصاد اللبناني بحيث تقيّد نموه، كما تقدّر الخسائر بـ 23.23 مليار دولار في الفترة ما بين 2009 و2014 وحدها .
للوهلة الأولى ، يبدو أن هذا القطاع، بحالته الحالية كقطاع عام، قد بات من المستحيل إصلاحه وهو ملزم بالإبلاغ عن خسائر فادحة سنويّة بسبب دعم الحكومة لسعر استهلاك الكيلووات ساعة. إذاً، يصبح السبيل الوحيد والمنطقي لوقف هدر المال العام وإنعاش القطاع وتحسين خدمته، "تحريره" إن كان عبر خصخصة مباشرة أو أخرى مقنّعة تحت مسمّيات الشراكة بين القطاع العام والخاص. لكن نظرة فاحصة تكشف أن المشكلة لا تكمن بالضرورة في الدعم الحكومي لسعر الاستهلاك، خاصة وأن تكلفة الكيلوواط ساعة على مستهلكي الطاقة في لبنان تُعتبر إلى حد ما وسطيّة مقارنةً مع البلدان المجاورة كما هو مبين في الرسم 1.
ويمكننا أن نلاحظ الفرق الشاسع بين التعرفتين بما يخصّ لبنان. نستنتج هنا أن المشكلة تكمن في المقام الأول في التعرفة المرتفعة لاسترداد التكاليف في لبنان (في المرتبة الثانية بعد جيبوتي )، أو ما ينبغي أن تكون عليه فاتورة الكهرباء لتغطية تكاليف إنتاج الطاقة في مؤسسة كهرباء لبنان بحيث تكون الخسائر صفراً. والسبب وراء ذلك هو ارتفاع تكلفة إنتاج الكهرباء في البلد مما يتطلب زيادة سعر كيلووات ساعة لتغطيته. وبالتالي نرى التباين الكبير بين متوسط تعرفة المستخدم النهائي (وهو وسطي بالمقارنة مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) وتكلفة الإنتاج.
|
HFO |
DO |
NG |
Hydro |
Wind |
الكفاءة الانتاجيّة (%) |
34 |
32 |
52 |
100 |
100 |
الحد الأقصى للتوافر (%) |
45 |
51 |
70 |
29 |
40 |
تكلفة رأس المال (مليون $/ميغا واط) |
0.8 |
0.8 |
0.7 |
2 |
1.5 |
تكلفة الاستيراد ($/طن) |
395 |
660 |
0.6 |
- |
- |
محتوي الطاقة (وحدة حرارية بريطانية/طن) |
42,122,900 |
43,785,000 |
275,466 |
- |
- |
كلفة الانتاج (وحدة حرارية بريطانية/$) |
106,640 |
66,341 |
459,110 |
- |
- |
يمكننا استنتاج السبب الكامن وراء ارتفاع تكاليف الإنتاج من الجدول السابق (2). فكما رأينا سابقاً، يعتمد نموذج إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان اعتماداً كبيراً على الـ HFOHeavy Fuel Oil (زيت الوقود الثقيل( والـ DODiesel Oil (زيت الديزل)، وهي أنواع وقود مكلفة للغاية اقتصاديّاً وبيئيّاً وغير فعّالة مقارنةً بالبدائل. وبما أن تكلفة الوقود تبلغ حوالي 62٪ من التكلفة الإجمالية للإنتاج [1]، فإن اختيار الوقود يلعب دوراً مهمّاً في ارتفاع تكاليف الإنتاج والخسائر المترتبة على القطاع والدولة اللبنانية.على سبيل المثال، وبغض النظر عن الكفاءة الفائقة والتوافر المرتفع للغاز الطبيعي، يمكن احتساب تكلفة الطاقة باستخدام NGNatural Gas (الغاز الطبيعي)، على أنها أقل بأربع مرّات من كلفة إنتاج الـ DO والـ HFO اللذان يعدّان نوعيْ الوقود الرئيسيّين المستخدمان لإنتاج الكهرباء. لذا من شأن التحول الكامل إلى الغاز الطبيعي أن يوفر، باستخدام أرقام الجدول، توفيراً قدره 62 ٪ x 75 ٪ = 46.5 ٪ في إجمالي تكاليف مؤسسة كهرباء لبنان. وبالتالي ينصح بشدة بالانتقال نحو الاعتماد على الغاز الطبيعي في الإنتاج، خاصة وأن اثنتين من محطات إنتاج الطاقة هي بالفعل من النوع CCGT، Combined Cycle Gas Turbines (توربينات الغاز ذات الدورة المركبة)، ذات كفاءة عالية جدّاً على الغاز الطبيعي. فمن المؤسف أن هذه المولّدات (في دير عمار والزهراني) المكلفة والجديدة نسبيّاً تعمل على زيت الوقود الثقيل بكفاءة متدنيّة.
بالنظر إلى البدائل الأخرى، نرى أن مصادر الطاقة المتجددة يجب أن تلعب دوراً هاماً في أي خطًة جدّية لإصلاح القطاع. رغم أن هذه المحطّات لها تكاليف مالية أعلى، فإنها لا تحتاج إلى وقود لتشغيلها، ويقدّم لبنان عدة خيارات قابلة للتطبيق للطاقة المتجددة التي يتم استكشافها بالفعل. على سبيل المثال، تُظهر خريطة الرياح في البلاد مناطق مجدية لوضع مزارع الرياح مثل عكار والبقاع، في حين يمكن استغلال الأنهار العديدة شديدة الانحدار لانتاج الطاقة الكهرمائية عبر أساليب ذات أثر أقلّ تدميراً على المستوى البيئي والاجتماعي من السدود المنجزة والمقترحة الفاشلة، كالتوربينات في المياه الجارية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من الطاقة الشمسية بشكلٍ كبير خاصةً بعد تطوير خريطة الطاقة الشمسية للبنان.
في حالة لبنان، يخضع اختيار الوقود وأنواع معامل الانتاج لحسابات شخصيّة وليس لأسباب علميّة ذات منفعة عامة، فاستيراد الوقود محتكر من قبل جهات سياسيّة تفرض السعر على الدولة. من هنا يمكن فهم الواقع الحالي لمؤسسة كهرباء لبنان والقطاع العام ككل: يتم تدميره بشكل منهجي ومقصود بهدف سلخ هذه المرافق عن ملكيّتها العامة. فيتم مثلاً استحضار أرقام تبيّن خسائر وتدنّي فاعلية المؤسسات العامة، منادين بخصخصتها بحجّة رفع فاعلية القطاعات ووقف خسائر الخزينة. في الحقيقة، إن العديد من الدراسات تظهر، عكس المنظور السائد، أن الخصخصة تقلّل من الفاعليّة وترتّب خسائر كثيرة لتضخيم الأرباح. ففي أكبر دراسة حول كفاءة جميع الشركات الأوروبية التي تمت خصخصتها خلال الفترة 1980-2009، قارنت أداءها مع الشركات التي بقيت عامة وأداءها السابق كشركات عامة. والنتيجة كانت بأن أداء الشركات التي تمّت خصخصتها أسوأ من الشركات التي ظلّت عامة واستمرّت في ذلك لمدة تصل إلى 10 سنوات بعد الخصخصة، خاصة في مجال الاتصالات الذي يعتبر من الاكثر تنافسية ويقدّم كمثال ناجح عن الخصخصة . أمّا في مجال تقليل الخسائر، فإن للخصخصة أثر معاكس جرّاء تدهور الخدمات وحاجة الحكومات لإنقاذ الشركات عبر دعمها لحمايتها من القرارات الخاطئة في اقتصاد السوق. وحتى إن تغاضينا عن كل هذه المؤشرات الدالّة على سلبيّات الخصخصة، فإن وضع لبنان الحالي يشير الى أن عملية خصخصة أي قطاع تعني بكل بساطة استيلاء السلطة الحاكمة عليه بشكل كامل وليس احتكار مجالي إعادة الإعمار و"معالجة" النفايات من قبل المنتفعين إلّا بدليل واضح على ذلك.
على الحل إذاً أن يكون ذا شقّين: برنامج سياسي مناقض للطائفيّة والزبائنية الحاليّة لفك سطوة السلطة الحاكمة، ينظر في الوقت عينه إلى القطاعات العامة على أنّها المؤسسات التي تعمل لتقديم خدمات مقبولة ذات نوعية جيدة من أجل تحسين معيشة السكان، لا مؤسسات تبتغي الربح. إنّ قضايا قطاع الطاقة كما التلوث وأزمة القمامة والرعاية الصحية وما إلى ذلك، تندرج جميعها تحت مسألة أساسيّة: تفضيل مصلحة القلّة على مصلحة الأكثرية.