أردوغان وسياسة الانتحار
تسارعت الأحداث بشكل دراماتيكي في الشمال–الغربي السوري وبخاصة في منطقة إدلب، في شباط الماضي وكادت الأوضاع العسكرية أن تخرج عن السيطرة، لتتحوّل إلى حرب مفتوحة بين الجيشين السوري والتركي، يصعب رسم حدودها.
اسطنبول التي أوصلت الطيب أردوغان إلى رئاسة بلديتها عام 1994 ومنها إلى رئاسة الجمهورية حتى عام 2023، عادت وانقلبت على حزبه في الانتخابات البلدية الأخيرة. وشكّلت بنتائجها هزيمةً له ستترك أثرها بدون أي شك على توجهات حزبه في المستقبل. العاصمة الاقتصادية التي تجمع قرابة خمسة عشر مليون مواطن، والتي راهن الرئيس أردوغان على أصواتها، لاعتبارها، على حدّ قوله، انتخابات تاريخية ومصيريّة، خذلته بهزيمتها له إلى جانب مدنٍ كبرى مثل أنقرة وإنطاليا وإزمير.
صحيحٌ أن الجبهة التي شكلها حزب العدالة والتنمية مع الحركة القومية التركية، لا تزال تتمتع بحوالي 51% من أصوات الأتراك، إلّا أن المدن الأربع حيث قوة القرار الاقتصادي والسياسي والشعبي وحتى الثقافي، أسقطتها. ورغم استنفار أردوغان لأجهزة الدولة في حملته الإنتخابية، من وسائل إعلامية وخدماتية وأمنية وطائفية، وتخوينه لكل من يعارض حزبه، فإن الناخب التركي لم يخضع بالكامل لهذا التهويل وهزّ كرسي الحكم لأردوغان.
الأزمة الإقتصادية تتفاقم في تركيا، وانعكاساتها المباشرة على المواطن التركي كان لها الأثر الأول في صندوق الاقتراع، فالليرة التركية في تراجعٍ ملحوظ، وقيمتها الشرائية متهاوية، مما انعكس سلباً على أسعار السلع ومن بينها المواد الغذائية والزراعية التي يعمل على استقدامها من المناطق السورية الخاضعة له. وهذا ما زاد من تدهورأوضاع الطبقات المتوسطة والفقيرة ومن شعور المواطن بالضيق الاقتصادي، فخسر حزب العدالة قرابة 6% من ناخبيه السابقين.
إنّ الممارسات القمعية التي مارسها نظام أردوغان بحق الشعب التركي وخاصة الأكراد والشيوعيين واليساريين، كانت شديدة وواسعة جداً إذ زجّ بحوالي 260 ألف مواطن في السجون، من ضمنهم 11 نائباً منتخباً ورؤساء أحزاب وبلديات ونقابات.
وإذا كان أردوغان قد نجح بالفوز في بعض المدن الكردية الصغيرة كشيرنق وغيرها نتيجة الحملة الأمنية والقمعية الشعواء التي يقوم بها منذ عدة سنوات، إلّا أن هذا لا يعني أنه حقّق نصراً بين الناخبين الأكراد. فمن أصل 96 بلدية في جنوب شرق تركيا كان حزب الشعوب الديمقراطي قد فاز بها سابقاً، فاز هذه المرة بـ 94 منها. والملفت أيضاً، تمكُّن مرشح الحزب الشيوعي التركي من الفوز برئاسة بلدية مدينة تونشلي وهي مركز محافظة في الشرق التركي، لأوّل مرّة في تاريخ تركيا.
لقد وضعت المعارضة التركية جزءاً من خلافاتها جانباً وأعطت الأولوية لهزيمة أردوغان، فنسّقت تحالفاتها. ولم تكن خريطة التحالفات بنت لحظتها، بل أعقبت أشهراً من التنسيق والعمل، ففي تشرين الأول من العام الماضي شارك ممثل عن الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمر حزب إعادة تأسيس الإشتراكي التركي في أنقرة، وهو حزب اشتراكي يساري ويشكّل مكوّناً فعلياً داخل حزب الشعوب الديمقراطي. ومن خلال المشاركة، تبيّن وجود خطة استراتيجية، لبناء تحالف قادر على إسقاط أردوغان في المدن الكبرى. وأخذ المؤتمر قراراً بذلك، وهذا ما تم فعله بالتنسيق مع حزب الشعب الجمهوري المعارض رغم تباعد الرؤى السياسية معه في عدة نواحٍ.
ورغم الخلافات الكثيرة القائمة، إلّا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني حسن روحاني هما أوّل من هنّآ أردوغان بالفوز لحصول حزب العدالة على الأكثرية، من أجل استمرارالإحاطة برأس السلطة التركية، منعاً للارتماء الكلّي في أحضان واشنطن والناتو، وحرصاً على تنفيذه الاتفاقات الاقليمية المعقودة ومن ضمنها الوضع في سوريا. وهذا ما يبرز أيضاً في تحقيق صفقة صواريخ "S400" الروسية على حساب الطائرات الحديثة "F35" الأميركية.
المشهد السياسي ما بعد الانتخابات ليس كما قبلها. سيبقى أمام المعارضة الفائزة في اسطنبول بشكل خاص، أن تكشف أوراق الفساد التي يُحكى عنها في بلدية المدينة مع العمل على بناء نموذجٍ سياسي وإداري فعّال يستطيع كسبَ ثقة الناس تمهيداً للمعارك المقبلة، في ظل أن القوى التقدمية التركية تعي أن الانتخابات الرئاسية بعد أربع سنوات هي المحطة المفصلية في مستقبل البلاد. ويجب أن لا تقف الخلافات القائمة بين القوى اليسارية العلمانية التركية عائقاً أمام تكاتفها معاً في مواجهة النهج القمعي الذي سيلجأ له أردوغان مجدّداً لتثبيت حكمه. فهو، أي أردوغان، لن يستطيع التسليم بالتراجع والهزيمة، سواء على المستوى الاقليمي أو على مستوى الداخل التركي. وإن كانت يداه مكبلتان إقليمياً، يبقى الخوف الرئيسي من إطلاق يديه لقمع معارضيه داخليّاً، متكئاً على إحكام قبصته على القضاء والأجهزة الأمنية خاصةً بعد الانقلاب الفاشل الأخير وحملة التطهير والاستبدال التي قام بها.
تسارعت الأحداث بشكل دراماتيكي في الشمال–الغربي السوري وبخاصة في منطقة إدلب، في شباط الماضي وكادت الأوضاع العسكرية أن تخرج عن السيطرة، لتتحوّل إلى حرب مفتوحة بين الجيشين السوري والتركي، يصعب رسم حدودها.
ليست اسطنبول كباقي المدن التركية. فبالإضافة إلى أنها العاصمة الاقتصادية لتركيا، هي المدينة التي انطلق منها أردوغان وحزبه للسيطرة على المشهد السياسي لتركيا في السنوات العشرين الماضية. ولطالما اعتبر أردوغان أنّ من يربح اسطنبول، يربح تركيا. لذا لم تكن الانتخابات البلدية تفصيلاً عاديّاً يمكن أن يستسلم له بسهولة حزب العدالة والتنمية الحاكم.