الأهمية الدائمة لرأسمال ماركس

كتب هذا الكتاب عالم الاقتصاد السوفييتي والمؤلف للعديد من الأعمال عن تاريخ ونظرية الماركسية فيتالي فيجودسكي. نُشر كتاب فيجودسكي “تاريخ إكتشاف عظيم” في جمهورية المانيا الديمقراطية واليابان وتُرجم للإنجليزية والفرنسية والإسبانية. مُعَدّ للقارئ المهتم بالعمليات الاقتصادية - الاجتماعية الجارية اليوم، تلك الدراسة لرأسمال ماركس تناقش أهمية نظرية ماركس ومنهجه في الظروف المعاصرة. يظهر الكتاب أن تلك النظرية تقدم مفتاحاً لفهم العالم المعاصر.

ترجمة: عمرو عاشور
مراجعة ومقدمة: حاتم بشر


الجزء الأول – كيف عمل كارل ماركس
ترك ماركس مجموعة غنية من الأعمال حول المسائل الاقتصادية. تضم هذه الأعمال دفاتر تحتوي على مقتطفات من كتب الاقتصاد السياسي ومسودات نسخ عديدة من رأس المال ورأس المال نفسه ورسائله لإنجلز و العديد من المراسلين الآخرين. كل تلك الوثائق (لم يُنشر العديد منها وحُفظ في الأرشيف) يدرسها الباحثون من مختلف البلدان بعناية كبيرة. هذا العمل المرهق ضروري لأن إرث ماركس في كُليته فقط يمكن أن يعطي الجماهير فكرة صحيحة وشاملة عن النظرية الاقتصادية الماركسية. الدراسة المعمقة لتاريخ رأس المال ضرورية لتملك أفكارها بشكلِ خلاق وتطبيقها في تفسير العمليات الاقتصادية المعاصرة. فهم منهج ماركس المبدع ضروري وبالغ الفائدة. دقة ماركس العلمية الاستثنائية والمادة الرحبة التي استخدمها وتحليله العميق لها، تبهرنا كما أبهرت معاصريه منذ قرن مضى. وعلاوة على ذلك فهي تعلمنا الكثير.
لم تتطور نظرية الاقتصاد الماركسي بين عشية وضحاها. كرس ماركس أربعين عامًا من الجهد المكثف والدائب لكتابة رأس المال. اِستهل العمل فيه منذ عام 1843 واستمر حرفيًا حتى آخر يوم من حياته. كل تقدم أحرزه ماركس في فهم قوانين التطور الاجتماعي، كلفه مجهودًا ضخمًا بجانب الإجهاد الضخم لقواه الذهنية والبدنية. كل كشف نظري، وكل صفحة كُتبت من المخطوطة لجعل المسألة أوضح في نظره (كما أحب القول)، مثلت جبالاً من الكتب، وُضعت ودُرست، وأكوامًا من الملاحظات والساعات والأيام والشهور والسنين من البحث المكثف. هل كان هذا العمل الدقيق على مدار كل تلك الأعوام ضروريًا؟ هكذا أجاب إنجلز على هذا السؤال: "في كل الأبحاث العلمية المشتملة على حقل واسع ومادة ضخمة، يمكن فقط تحقيق شيء ذا قيمة عبر السعي لسنوات"، كتب إنجلز عام 1993، بعد وفاة ماركس، "وجهات النظر الجديدة والصائبة حول القضايا المنفردة... تصبح واضحة بشكل أسرع، ولكن أن تضم الكل وتنظمه ضمن خطوط جديدة ممكن فقط إذا شمله الفرد بعمق. وإلا تعددت كثيرًا الكتب المشابهة لرأس المال."5
لا يهدف الكتاب الحالي لإعطاء وصف تفصيلي للأربعين عامًا من تاريخ كتابة رأس المال. ولكن ستتعرف على مراحل محددة في كتابته وتلقي نظرة على طريقة عمل ماركس.

1. بحثًا عن "المحرك الجوهري "(1843-1844)
عند دراسة منهج ماركس في العمل نُصاب بالدهشة فورًا لتصميمه على اِستنباط كل شيء من كل مصدر متاح من المادة المدروسة. كتب إنجلز إلى ماركس مؤنبًا إياه لتأخره في نشر رأس المال: "ولكني أدرك أيضًا أن سبب التأخير دائمًا هو افراطك في التدقيق."6 هذا الحس المذهل بالمسؤولية العلمية نشأ من رغبة ماركس في النفاذ إلى جوهر الموضوع وصياغة نظرية تعكس بأكبر دقة ممكنة الاِتجاهات الرئيسية لتطور المجتمع.
منذ شبابه، كانت الرغبة في اِكتساب معرفة أساسية بكل الأشياء صفة مميزة لماركس. فمن القانون، الذي درسه في جامعتي بون وبرلين، اِنتقل إلى الفلسفة وقمتها-هيجل. كتب ماركس في سن ال19: "ومجددًا اِتضح لي استحالة المُضي بدون فلسفة"7. زودت الفلسفة الهيجلية ماركس بأداة قوية وهي المنهج الجدلي. بدأ ماركس بعد خمس سنوات لاحقة بالمساهمة في جريدة <<رينيه زايتونغ>>، ثم أصبح محررًا لتلك الجريدة البرجوازية الراديكالية المعارضة للدولة البروسية البرجوازية.
عندما بدأ ماركس العمل في جريدة <<رينيه زايتونغ>> كان لا يزال يتشارك النظرة الهيجلية المثالية عن الدولة كعامل محدد للتطور الاجتماعي. ولكن، لاحقًا، دار سجال حاد في برلمان مقاطعة الراين حول قانون سرقات الخشب وتجزئة الملكية العقارية ما دفع ماركس إلى التعامل مع أول القضايا الاجتماعية. فقد رأى بوضوح أن الدولة تعمل نيابة عن المُلاك العقاريين، وأن التشريعات بدلاً من تنظيم العلاقات الاجتماعية، تُستخدم كأداة لهم- للمصلحة الخاصة. لهذا، فحين دافع ماركس عن الفلاحين الفقراء ضد قمع المُلاك العقاريين وبرز نيابة عن فلاحين وادي موزيل ضد الحكومة من وجهة نظر الفلسفة الهيجلية، مجادلاً بالأخلاقي والقانوني بدلاً من الاجتماعي والاقتصادي، افتقر نقده للدولة البروسية إلى القناعة. أدرك ماركس هذا بنفسه. ولكن الصراع السياسي اليومي الشديد الذي حمله ماركس ضد الحكومة البروسية في مجلة <<رينيه زايتونغ>> دفعه تدريجياً صوب المادية، ما جعله واعيًا بالدور الحاسم الذي تلعبه العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية في تكوين القانون والمجتمع والدولة. كتب ماركس في صحيفة <<رينيه زايتونغ>> في منتصف عام 1842: "ولكن الفلاسفة لا يخرجون من الأرض كالفطر، هم ثمرة عصرهم وشعبهم... فالروح التي تبني الأنظمة الفلسفية في عقل الفلاسفة، هي من تُشيد السكك الحديدية بأيدي العمال"8. هنا يقيم ماركس مقارنة بالغة الأهمية بين التقدم الاقتصادي وتطور الفلسفة.
يجب منح اِهتمام خاص لمرحلة اِطلاع ماركس على الاشتراكية الطوباوية والشيوعية أثناء عمله في جريدة <<رينيه زايتونغ>>. عند قراءة أعمال برودون وديزامي وليرو وكونسرانت، توصل ماركس إلى اِستنتاج شديد الأهمية عن الطبيعة الطوباوية لأرائهم وأعلن عن الحاجة للتطوير النظري للأفكار الشيوعية9. أنشطة ماركس اللاحقة كُرست في الواقع لتلك المهمة، أي، لتحويل الاشتراكية الطوباوية إلى اشتراكية علمية. أول خطوة اتخذها ماركس في هذا الاِتجاه هو تخطي مفهوم هيجل المثالي عن الدولة وإعطاء أساس نظري للاِستنتاجات التي توصل لها أثناء عمله في جريدة <<رينيه زايتونغ>>. اِستنتاجه الرئيسي هو أن الدولة نفسها أداة العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية الموجودة موضوعيًا.
مقدار العمل الذي أتمه ماركس في نقده لفلسفة هيجل في القانون مُذهل حَقّا. فبمجرد تشككه في رأي هيجل المثالي عن العلاقة بين الدولة والمجتمع، بدأ بالبحث عن الصلة الحقيقية بينهم. لهذا السبب ذهب في صيف عام 1843 لمدينة كرويتزناخ حيث مكث هناك بمفرده حتى نهاية أكتوبر..
بَحَث ماركس مقدار ضخم من المادة التاريخية . درس تاريخ ودولة والبناء الاجتماعي لفرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وإيطاليا والسويد، ودرس الثورة الفرنسية البرجوازية في أواخر القرن الثامن عشر، وأعمال مؤرخين وفلاسفة ورجال دولة فرنسيين وألمان وإنجليز وايطاليين. خلال شهر يوليو وأغسطس، كتب ماركس خمسة دفاتر عُرفت لاحقًا بإسم "دفاتر كرويتزناخ" مع مقتطفات من تلك الأعمال المذكورة. ركز ماركس اِهتمامه بشكل رئيسي على المِلكية الإقطاعية وتأثيرها على الطبقة والبناء السياسي للمجتمع. بحث ماركس التاريخي في كرويتزناخ أعطى الأساس لوضع مفهوم هيجل المثالي عن الدولة والقانون "على قدميه". حدث هذا أيضًا في صيف عام 1843 في مخطوطة <<إسهام في نقد فلسفة القانون لهيجل>> (للأسف حُفِظَ بعض أجزاء فقط من تلك المخطوطة).
يستعرض ماركس وينقد فلسفة القانون عند هيجل على أساس من التحليل العيني للتطور التاريخي والعلاقات الاجتماعية والسياسية بين المجتمع البرجوازي والدولة البرجوازية. عَرَض بوضوح مفهومه عن العلاقة بين الدولة و"المجتمع المدني"، وإجمالي العلاقات الاجتماعية المادية، وبخاصة علاقات المِلكية. "العائلة والمجتمع المدني شرط مسبق للدولة...هم القوة المحركة، عند هيجل، وعلى النقيض من ذلك، هم صنيعة الفكرة الخالصة."10
في أواخر شهر أكتوبر عام 1843 اِنتقل ماركس إلى باريس للمشاركة في تحرير مجلة <<الحولية الألمانية الفرنسية>>، وصُدر منها عدد واحد فقط. كان ذلك العدد مزدوجًا، وصُدر في فبراير 1844، واِحتوى على مقالتين لماركس تعكسان نتائج دراسته للمجتمع المدني والعلاقات الاجتماعية التي بدأ فيها مباشرة بعد نقده لفلسفة القانون عند هيجل.
استخدم ماركس معرفته بروليتاريا باريس وتقاليدها الثورية وبشكل عام، المجتمع البرجوازي الفرنسي عامي 1798 و1830 وعداءاتهم الطبقية. "ولكن نظام الربح والتجارة، والمِلكية واِستغلال الإنسان يقود إلى صدع في المجتمع المعاصر لا يستطيع المجتمع القديم علاجه"11. هذا أول وصف ماركسي عميق للمجتمع المعاصر.
ولكن كيف نتجاوز هذا الصدع؟ هل يمكن تجاوزه بنقد المجتمع؟ اِعتقد ماركس ذلك وأعطى اِهتمامًا كبيرًا لذلك النقد. "أعني...النقد الصارم لكل ماهو موجود". وفي نفس الوقت أصر على ربط النقد بسياسات الحزب ومماثلتها "بالمعارك الحقيقة". يكتب أيضًا: "من الواضح أن سلاح النقد لا يستطيع اِستبدال النقد بالسلاح. القوة المادية يمكن هزيمتها فقط بالقوة المادية. ولكن النظرية نفسها تصبح قوة مادية عندما تستحوذ على الجماهير"12. لذلك اِستنتج ماركس (عبر عن ذلك، وقت كتابته، بصيغة فلسفية عامة.) أنه للقضاء على الاِستغلال الرأسمالي لابد من ثورة اجتماعية.
هكذا، في فوضى الأحداث البشرية المندفعة، وجد ماركس "المحرك الجوهري" للمجتمع البشري، أي، العلاقات الاجتماعية المادية وعلاقات المِلكية. لذلك أصبح تحليل أسس المجتمع الرأسمالي ونظام الاقتصاد الرأسمالي الهدف الرئيسي لماركس. قام ماركس بالمحاولة الأولى والمثمرة في هذا الصدد منذ اوائل عام 1844 في عمله الشهير <<المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844>>.
تأثر ماركس كثيرًا بعمل إنجلز <<خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي>> المنشور في فبراير 1844. فكانت أول محاولة للتحليل العلمي للاقتصاد الرأسمالي والنقد العلمي للاقتصاد السياسي البرجوازي من المنظور الثوري للطبقة العاملة. فللمرة الأولى طرح إنجلز مسألة مبرر الملكية الخاصة الرأسمالية. عرض ماركس أيضًا، في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، الأطروحة القائلة القائلة بالطابع التاريخي العابر للمِلكية الخاصة وضرورة القضاء عليها. ولكن أولاً فسر ماركس "المحرك الجوهري" الذي اِكتشفه، موضحًا أولوية وأهمية الإنتاج المادي للمجتمع البشري. وكتب، "الدين والعائلة والدولة والقانون والأخلاق والعلم والفن، إلخ، أنماط جزئية للانتاج، وتقع تحت قانونه العام."13
بينت دراسة ماركس للإنتاج الرأسمالي، في زمنه، قيامه على اِستغلال الرأسمالي للعامل. نظام العمل المأجور والذي مكن الرأسمالي من مصادرة جزء من إنتاج العامل. هنا يقع مصدر الربح الرأسمالي. ندد الاشتراكيون ما قبل الماركسية بلا أخلاقية تلك المصادرة، وباِحتيال رأس المال على العامل، وأرادوا إلغاء الربح الرأسمالي بدون المساس بـالإنتاج الرأسمالي نفسه. لم يدركوا أن الربح في المجتمع الرأسمالي هو المحرك الأساسي للإنتاج. كان الاشتراكيون ما قبل الماركسية طوباويين، وآرائهم متناقضة مع الواقع. هذا يفسر الفشل التام لمحاولتهم إصلاح المجتمع البرجوازي. ولكن بالطبع، يجب تقييم محاولاتهم في تناول القضايا الاجتماعية. كتب إنجلز أن الشيوعية العلمية "لن تنسى قيامها على أكتاف سان سيمون وفورييه وأوين، ثلاثة رجال يقفون، بالرغم من مفاهيمهم الخيالية وطوباويتهم، بين أبرز المفكرين في التاريخ، وعبقريتهم توقعت أشياءًا لا حصر لها نثبتها نحن الآن علميًا"14. الاشتراكية الطوباوية، بكلمات لينين، "اِنتقدت المجتمع الرأسمالي وإدانته ولعنته وحلمت بتدميره واِمتلكت رؤية عن نظام أفضل وسعت لاِقناع الأغنياء بلا أخلاقية الاِستغلال."15
أظهر الاشتراكيون الطوباويون العديد من شرور المجتمع البرجوازي. وأصروا على القضاء على العلاقات الاجتماعية العدائية وإقامة نوع آخر من المجتمع يتساوى فيه البشر، ولا وجود فيه لاِستغلال الإنسان. بالرغم من كونهم مبشرين بمجئ الاشتراكية العلمية، إلا أنهم فشلوا في تحليل جوهر عبودية الأجر في الرأسمالية، أو اِكتشاف القوانين الحاكمة للتطور الاجتماعي، أو تحديد القوة الاجتماعية القادرة على بناء المجتمع الجديد.
منهج ماركس مختلف تمامًا. فمُنذ البداية اِنطلق لتوضيح العملية الطبيعية –"طبيعية" من منظور المجتمع الرأسمالي بالتأكيد- لاِستغلال الرأسمالي للعامل، واصفًا إياها ب" التعبير عن مسار ضروري للتطور"16.
هذا في الحال وضع النظرية التي كان يصوغها ماركس على أسس علمية صارمة.
يرى ماركس أن المشكلة الرئيسية عند دراسة عملية الاِستغلال الرأسمالي هي كون ناتج العمل ملك للرأسمالي وليس للعامل، الذي يعتبره غريبًا عنه. إذا فناتج العمل مغترب عن العمل. يجب القول أنه في تلك المرحلة من بحثه اِقترب ماركس من حل تلك المسألة والتي تعد بالغة الأهمية بكل تأكيد لدراسة الاستغلال الرأسمالي. ولكن، طرح المشكلة في حد ذاته كان إيذانًا باِنعطافة جذرية في زاوية النظر خلال مسيرة تطور الاشتراكية العلمية.
تماشيًا مع مبدأ أولية الإنتاج المادي، يستنتج ماركس أنه لتفسير اِغتراب أو اِستلاب ناتج العمل عن العامل، يجب التعمق في عملية الإنتاج وفحص العلاقات التي تتكون بين العامل والمنتجات، والعامل ومواضيع انتاجه. لأن العلاقة بين العامل والانتاج تقع تحت علاقات العمل في المجتمع الرأسمالي. لذلك مضى ماركس من دراسة اِغتراب ناتج العمل لدراسة العمل نفسه. يصف ماركس الطبيعة الخاصة للعمل في ظل الرأسمالية بالاِغتراب أو الاغِتراب الذاتي للعمل (يستخدم ماركس الاِغتراب الذاتي كشيء مختلف عن الاِغتراب، للتأكيد على أن الاِغتراب هو نتيجة لعمل العامل، وأن مصدر الاِغتراب داخل الإنتاج وليس خارجه).
يكتب ماركس في <<المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844>>: "لا يبرز الاِستلاب في النتيجة النهائية للإنتاج فقط، ولكن أثناء الإنتاج، أثناء النشاط الإنتاجي نفسه...في اِستلاب موضوع العمل يُوجز ببساطة الاِستلاب والاِغتراب، في نشاط العمل نفسه."17
في وصفه الاِغتراب الذاتي للعمل في المجتمع البرجوازي، يشير ماركس إلى أن عمل العامل ليس طوعيًا، بل إلزاميًا، عمل إجباري. فلا العامل أثناء الإنتاج ولا عمله نفسه ينتميان إليه. نشاط العامل، كما يقول ماركس، ليس طوعيًا. بل يمثل له فقط مجرد وسيلة للبقاء. ويسبب هذا إفقار فادح للحياة البشرية. كلا من الطبيعة المحيطة بالإنسان وجانبه الروحي مغتربان عنه. تنامي متطلبات الطبقة الحاكمة ووسائل تلبيتها تتسبب في الإنقاص الهائل لمتطلبات الشعب العامل. وأخيرًا، فكل فرد عامل في ظل الرأسمالية مغترب عن الفرد الآخر، مثل اِغترابه عن جانبه الروحي.
تعد دراسة ماركس لاِغتراب العمل في الرأسمالية جزء مكمل لنظريته الاقتصادية. فحتى تلك اللحظة مكنت تلك الدراسة ماركس من تقديم وصف عام لوضع الطبقة العاملة في المجتمع البرجوازي. لاحقًا ، كما سنرى، طور ماركس تلك الدراسة مشيرًا، بجانب الخصائص الكيفية الجديدة، إلى علاقات كمية يبرز فيها الاِستغلال الرأسمالي. (جُسدت تلك العلاقات في مقولات الاقتصاد السياسي الماركسي مثل فائض القيمة المطلق والنسبي، والتركيب العضوي لرأس المال). ومع ذلك فتلك الخصائص الكيفية والعلاقات الكمية لم تتعارض مع الوصف العام المبكر للاِستغلال الرأسمالي ووضع الطبقة العاملة الذي قدمه ماركس في <<المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844>>، بل ساعدت على تطويره وإكماله. ثم أن تلك التفسيرات المبكرة أثبتت كونها بعيدة المدى بشكل كاف لتفسير العديد من التطورات الهامة الجارية الآن في البلدان الرأسمالية الصناعية المتطورة. (ربما هذا ما يفسر الاهتمام الشديد في الوقت الحالي بالمخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 في مختلف أنحاء العالم. هناك أدب ثري حتى هذا التاريخ حول هذا العمل المبكر لماركس.)
مستويات المعيشة المرتفعة الموجودة في بعض البلدان الرأسمالية مصحوبة باِستغلال رأسمالي مكثف، وفي الوقت نفسه، بنمو اِغتراب الجماهير عن كل جانب من حياة المجتمع. وصف جاس هال، السكرتير العام للحزب الشيوعي للولايات المتحدة، الموقف بتلك الكلمات: "في عقول الملايين في العالم الرأسمالي، ينمو معيار جديد، يقيسون من خلاله ويقارنون بين النظامين العالميين."
"لم تعد المقارنات الآن محصورة في الجداول البيانية أو أسعار السلع. ما اُدخل للمعيار هو إجمالي نوعية الحياة. تظل معايير الراحة البدنية شديدة الأهمية في تحديد نوعية الحياة، ولكن المعيار أكثر شمولاً الآن. فهو يتضمن السلسلة الكاملة للقيم الإنسانية، وترتيب الأولويات المفروض من قِبل القوانين الجوهرية لكل نظام، والمفاهيم الأخلاقية والثقافية والفلسفية. العديد من المكونات التي تُضاف إلى نوعية الحياة لا يمكن قياسها بالجداول البيانية." ذكر جاس هال الطابع الكيفي الرئيسي لوضع الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية: "الإحساس المتنامي بعدم الأمان والاِغتراب والإحباط من جراء التهميش."18
من المهم ملاحظة، كما أوضح ماركس، أن الملكية الخاصة الرأسمالية، سلطة الرأسمالي على الإنتاج وناتج عمل العامل، هي نتيجة مباشرة لاِغتراب العمل. في المقابل، فإن الملكية الخاصة، والتي تمثل تجسيدًا للعمل المغترب، تقود إلى اِغتراب أبعد للعمل. ما يشير إلى جدلية العلاقة بينهم.
وهكذا، فمفهوم العمل المغترب، كما طوره ماركس في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، كان لا يزال يمثل وصف عام فقط لعملية الاِستغلال الرأسمالي. لم يبين ماركس آلياتها الداخلية بعد. المهمة الآن هي إظهار كيف تقوم العلاقة بين العامل والرأسمالي على علاقات (أي، متساوون تمامًا) السلعة-المال المهيمنة على كل مناحي المجتمع البرجوازي. بعبارة أخرى، كانت المهمة هي تفسير الربح الرأسمالي في ضوء قانون القيمة، قانون التبادل المتساوي. لحل تلك المسألة، تعمق ماركس في بحثه لعملية الإنتاج المادي، وما نتج عن ذلك من اِكتشافيه العظيمين. الاكتشاف الأول كان صياغته للمفهوم المادي للتاريخ (أو المادية التاريخية)، أي تفسير قانون تطور المجتمع البشري. الاكتشاف الثاني كان توضيحه سر الإنتاج الرأسمالي، تطوير نظرية فائض القيمة، موضحًا بذلك القانون الاقتصادي الذي تخضع له حركة المجتمع البرجوازي. تلك الاكتشافات، التي حولت الاشتراكية الطوباوية إلى اشتراكية علمية، موضوع نقاشنا القادم.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 417
`


فيتالي فيجودسكي