نظام الكفالة اللبناني: أعلى مراحل العبودية

" نحن لا نتعوّد يا أبي إلّا إذا مات فينا شيء. تخيّل حجم ما مات فينا حتّى تعوّدنا على كلّ ما يجري حولنا."
ممدوح عدوان – من رواية "أعدائي"
لا يختلف اثنان، ليس في لبنان فقط إنّما في العالم أجمع، بأنّ العنصرية اللبنانية هي في أوجها تراكمت عبر السنون وتعمّقت في الفكر اللبناني لتصبح هي الفكر السائد والطبيعي لنمط العيش ليس داخل المجتمع وإنّما في نظامٍ عنصري بدائي. يتم التخفيف من عنجهيته عندما يوصف بالطائفي فقط.

إنّ التمعّن في النظام اللبناني يحيلك علميّاً إلى هرمية عنصرية غير عادلة (بحيث لا تكفي العنصرية وحدها)، حيث يخال للبعض أنّ الطائفية تتربّع على رأس هذا الهرم، ولكن مما سنبيّنه لاحقاً فإنّ رأس المال (أو الطبقة البرجوازية) هو الذي يتربع على رأس هذا الهرم (وعلى أرزاق جميع اللبنانيين) ويكرّس جميع طبقات الهرم الأخرى في خدمته. إذاً إن قسّمنا الهرم إلى أربع طبقات سيحتل رأس المال المرتبة الأولى، تليه الطبقة السياسية، ومن ثم الخبراء (اقتصاديين وسياسيين واجتماعيين وحقوقيين وإعلاميين...)، لتحُل الطبقات المهمّشة في المرتبة الأخيرة من الهرم أي كل من ليس في صفوة المواطنين وينظر إليهم كطوائف.
تلعب الطبقتان الثانية والثالثة دورها مستخدمةً بذلك جميع إمكاناتها السلطوية والعلمية في خدمة رأس المال الذي يزيد شجعاً مع الوقت، بحيث تقوم الطبقة السياسية في تدوير جميع الزوايا القانونية لتسهيل توغّل رأس المال في دوائر الدولة المدرّة للمال (الخصخصة والاستدانة هما النموذجان المفضّل والأبرز لسرقة المال العام). وبطريقة مبسّطة تقوم هذه السلطة بتقديم المال العام لرأس المال الخاص، ليأتي من بعدها دور الخبراء في تسخيف أي انتقادات وإرساٍء مفهومية مغلوطة لطبيعة الأمور القائمة، إمّا خدمةً لرأس المال وإمّا خدمة للطبقة السياسية التي تخدم بدورها رأس المال، لتلعب الطائفية أخيراً الدور المحرّك غرائزيّاً و شعبويّاً للمجتمع اللبناني، أي أنّها تعمل على تمييع الصراع الحقيقي وإبعاد النظر عن مكمن الخلل.
المشكلة خطيرة وكارثية طبعاً، وانفجرت أكثر من مرة على شكل حربٍ أهلية وستعود لتنفجر، ومعالجتها تحتاج إلى مجهودٍ جبّار أو شبه مستحيل في ظلّ انتشار خطابٍ أكاديمي محلّي أقلّ ما يوصف بالطائفي أيضاً (طبعاً الجمعيات غير الحكومية ومشتقاتها ليست أحد الحلول).
المجتمع اللبناني والعنصرية
تنظُر الطبقات المسيطرة في لبنان إلى المجتمع اللبناني بازدراء وهامشية إلى حدّ يصل إلى اعتبار المجتمع القائم "قطيع غنم أو رعاع" ، فحولّت بذلك الولاء للوطن إلى الولاء للطائفة والمال، وربطت حياة المواطن بالمزاجية التي تعود عليها بالمنفعة، بحيث ترتد هذه المزاجية إلى تصادمٍ حاد يأخذ بعده الطائفي والإلغائي دفاعاً عن مصلحة وحقوق أبناء هذه الطائفة.
إنّ الحياة اليومية للمواطن اللبناني مليئة بالعنصرية والقمع، حتى أن النظام اللبناني العنصري يعمل باستمرار على ترسيخها عبر سلب حقوق الناس وقمعهم وربطهم بمنظومة قانونية مجحفة وقاهرة تقوم على تهميش طبقة من المجتمع على حساب أخرى. وفي حين تنقرض سبل النجاح لدى الطبقة الفقيرة والوسطى في لبنان، بعد أن استُبعِدت من معادلة الترقي الاجتماعي الكفاءة العلمية ومدى التحصيل العلمي، ليصبح الحصول على عمل أو وظيفة مرتبطاً بشكل مباشر بمدى ارتباطك بزعيم الطائفة أو بالحزب المسيطر هو السبيل الوحيد للنجاح. وبمعنى آخر، إنّ نجاح أحد أبناء هذه الطبقتين وحصوله على قوته اليومي يرتبط بالقدرة على بلوغ أقصى حدود التزلف لزعيمه الطائفي (هو في أغلب الأوقات هو أقل كفاءةً منه). ويبقى لمن رفض الخضوع لهذا النظام الرضاء بالبقاء حيث هو، أو الهجرة التي عاد بعضها بنتائج أكثر ايلاماً من النظام اللبناني (سنأتي على ذكرها لاحقاً).
كما استطاعت الطبقة البرجوازية في العقدين الماضيين تمكينَ سطوتها على المفاصل الاجتماعية والثقافية المتبقية في البلاد، وفرضت نموذجاً للعيش يتناسب مع نظرتها وقدرتها المالية ناسبةً النمط إلى التقدم في مجتمعات الدول المتطورة (في حين أن ذلك ينتفي واقعياً)، فتحديد قيمة الشخص اليوم في لبنان لا يتم بناءً على معايير ثقافية أو علمية متقدمة، إنّما يُحدّد بناءً على قدرته الشرائية والرفاهية، أي أن قيمتك الاجتماعية مرتبطة كليّاً بماركة حذائك. وبالرغم من بساطة وسخافة هذه الأفكار إلّا أن وقعها على الطبقتين الوسطى والفقيرة كان الأشد وطأً، ممّا أدّى إلى إثقال أفراد هذه الطبقتين بعبء الوصول إلى هذا النمط من العيش، أي الوقوع في العجز ماديّاً. وإن عدنا إلى الناحية الثقافية فقد فُرِض على المجتمع اللبناني إعلاميون وكتّاب ومثقفون (يدخلون في طبقة الخبراء التي ذكرناها سابقاً) وهم أبعد ما يكونون عن الألقاب التي تُطلق عليهم، مجبِرين الطبقات الدنيا برأي لا يمكن مناقشته أو الاعتراض عليه، فـ"الذوق" يرتبط مباشرةً بالبرجوازية وهي تحدّد من يحقّ له إبداء الرأي والغناء والكتابة (راجع المسلسلات الرمضانية فقط لتأخذ العبر).
ولّدت هذه الممارسات شعوراً بالدونية لدى المواطن اللبناني العادي، وارتدّت عليه نفسيّاً واجتماعيّاً وساهمت في ازدياد الكراهية والعنف في المجتمع ككل وتعمّق الخوف من الآخر من غير منطقته أو من غير طائفته ومن الأجنبي. وبتعبير آخر فإنّ المواطن اللبناني يخضع لنظام عبودية خاص في بلده يضعه أمام العديد من المحرمات التي تخلق حالة فاضحة من القمع والاضطهاد، والتي تحتاج دراستها العودة إلى علم النفس الاجتماعي.
نظام الكفالة وعلّة الغريب
أدّت الثورة النفطية في أوائل القرن العشرين إلى هجرة كثيفة إلى الدول النفطية بحثاً عن فرصٍ أفضل، لكنّ هذه الأدمغة التي سعت إلى الأفضل اصطدمت بقانون عمل شبيه بالقانون اللبناني القائم على نظام الكفالة، وفي ظلّ المال الوفير المتواجد مقابل الكفاءة العلمية وقوة العمل أجبِرَ العديد من هذه الادمغة على تقديم الطاعة والولاء للكفيل (طويل العمر)، خوفاً من خسارة الوظيفة والمال والعودة إلى دائرة التيه. بالإضافةً إلى النظرة الدونية التي يملكها الكفيل تجاه العاملين في بلده والتي تزيد من القمع والاضطهاد للطبقة العاملة في بلاد الخير. لم يدرك اللبناني أنّ من يوظّفه بحاجة إليه ولكفاءته ولم يدرك أنه يتقاضى بدل عمله. والخطورة في ذلك أنّ هذه الأدمغة من المفترض أن تكون أكثر وعياً وإدراكاً للمترتبات النفسية والاجتماعية لهذا النظام الذي تخضع له (طبعاً قد فات الأوان)، وهذا ما ساهم في جعل نظام الكفالة اللبناني طبيعيّاً (normalization).
اعتاد اللبناني (طبعاً لسنا بصدد التعميم) على النظرة الدونية تلك، إن من قبل المستعمر الأبيض أو من قبل ربّ عمله وزعيم طائفته، على كل القمع والاضطهاد واللاإنسانية، وانتقلت معه العدوى إلى من هو أضعف منه طبقيّاً على المستوى اللبناني أو من جنسيات أخرى.
لم تعُد مستغربة إذاً، العنصرية التي يمارسها اللبناني على ما هو دونه (جينياً طبعاً، فاللبناني كالرجل الأبيض وُلِد بمؤهلات خارقة)، بحيث يمتنع هو عن القيام بـ"الأعمال الدونية" كتنظيف منزله وحديقته، ويوكلها إلى خادمة منزلية كي لا يضيع وقته المكرّس فقط للأبحاث العلمية في مصلحة نهوض البشرية. لكن الخادمة المنزلية هي تلطيف لكلمة عبد(ة)، فهذه الانسانة لا يحق لها امتلاك الهاتف أو الخروج خارج المنزل في يوم عطلة أو الاستراحة بعد عملٍ شاق حيث لا وجود لدوام عمل، هي وظيفتها الأساس تنظيف مخلفات اللبناني المنتقى جينيّاً، بالإضافة إلى الأساليب المستخدمة بحقها من ضرب وشتم إلى وضعها في غرفة منفردة (فالسجن الذي تعيش فيه لا يكفي)، كل هذا بمبررات فوقية، على سبيل المثال لا الحصر: أنها لا تفهم ما يُقال لها، وكأنّه بحال ذهب أي لبناني إلى بلدها الأم سيفهم لغتها المحلية. هذه الممارسة هي طبعاً علّة في من يمارسها، واستطاع اللبناني التفوق والاحتراف في هذا المجال، فذهب إلى إنشاء مكاتب لاستقدام الخادمات بناءً على مبدأ الطلب المستمر لـ"العبيد"، وعندما تشرح لأحدهم أن ما يقوم به هو فعل تجارة للرقيق يغضب وينهرك لأنه في نظره يقوم بتلبية حاجات السوق المحتّمة.
كما أنّه ليس مستغرباً، لوم اللاجئين (فلسطينيين وسوريين بوجه الخصوص) على الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعانيها البلد. وما عليك إلّا زيارة مواقع التواصل الاجتماعية لترى العنصرية التي تملأ صفحاته.
خاتمة
كان لهذا المقال أن ينتهي منذ عدّة أسابيع، لكن البحث في هذا المضمون يحيلك إلى العديد من الأسباب والدراسات العلمية والعديد من الأمثال. وكان لهذه الخاتمة أن تعطي بعض العبر، ولكن للمفارقة توّجت أسابيع هذا البحث بذروة العنصرية اللبنانية، عبر حملات طرد للاجئين العاملين وتحقيرهم وإهانتهم على شاشات التلفرة (xenophobia)، وحملات العنصرية اللبنانية-اللبنانية طائفيّاً ومناطقيّاً وطبقيّاً. فتسارعت الأحداث سريعاً، وكبرت الهوّة بشكلٍ متضخم والانفجار قادم لا محالة. لم يعد هناك من مهرب، ولم يبق أمامنا، نحن الطامحون إلى غدٍ أفضل وبلدٍ أرقى، سوى إقفال حقائبنا والرحيل... أو المواجهة.

  • العدد رقم: 360
`


فيدل العبادي