طنّوا ورنّوا بالتدقيق الجنائي، وهو التدقيق الذي يفترض أن يكشف أين ذهبت الأموال المنهوبة العامة والخاصة، والتي تبخّرت بين ألاعيب الحاكم اللعوب، وجمعية المصارف، والمصارف الخاصة، ووزارة المال والخزينة العامة. أرقام وراء أرقام، حتّى صارت الأرقام وجهة نظر. كان من المفترض أن يصل التدقيق الجنائي إلى نتيجة تقول: هذا ما حصل بأموال الناس، وهذه هي الأرقام الحقيقية، لتفتح المجال أمام وضع خطط لتحديد الخسائر وتحميلها. لكنّ أقطاب الحكم، صالوا وجالوا وأضاعوا الوقت والفرص وماطلوا وتلاعبوا حتى وصلت للحظة الحقيقية أمام ادّعاء مصرف لبنان أنّه لا يستطيع كشف أرقامه وحساباته متحجّجاً بقانون السرية المصرفية. ذهبوا إلى مجلس النواب، وتمخّض المجلس فولّد هرطقةً. اتّخذ المجلس "قراراً" هو عبارة عن لزوم ما يلزم، فلا هو قانون ولا تعديل في قانون، ولا ينشر في الجريدة الرسمية، ولا يلزم أحداً بشيء. يعطي القرار الهمايوني المائع مساحةً واسعة لحاكم مصرف لبنان ليستمرّ بالمراوغة والتلاعب، واختراع الحجج وابتداع الأسباب لعدم تقديم كشوفاته أمام التدقيق، وينقذ أرباب المجلس نفسه ومعهم أقطاب الحكومات المتعاقبة من مشقّة انكشاف استفادتهم على مدى عقود من التسهيلات والهندسات والاعفاءات والتهريبات، وليس آخرها تهريب أموالهم (المنهوبة من أموالنا) إلى الخارج طوال الأشهر العجاف الأخيرة. هي أشهر عجاف للجزء الأوسع من الشعب اللبناني، وفرصة مؤاتية للانقضاض على ما تبقّى من موارد بالنسبة إلى تلك القلّة القليلة الناهبة الحاكمة.
وفي السياق نفسه، دخلت التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت في دهاليز منظومة الحكم وباتت في عهدة قضاء مدجّن تنخره الزبائنية والفساد، إذ لا نتائج ستظهر ولا متهم سيساق إلى العدالة. وما يجري فعلياً هو جريمة جديدة تضاف إلى جرائم النظام القاتل، حيث تقوم قوى السلطة بتحييد المسؤولين الحقيقيين عن الإهمال والفساد، من وزراء ورؤساء من صلب المنظومة الحاكمة، وتحوّله إلى تحقيق بيروقراطي ممسوك يقوم في نهاية الأمر بتحميل المسؤولية بالنهاية على عاتق بعض الموظفين بتهمة التقصير الوظيفي، أو على شركة التعهدات التي لم تلتزم معايير السلامة. أمّا حقوق آلالاف الشهداء والجرحى فقد انتهت إلى اعتبارهم شهداء كشهداء الجيش والجرجى مضمونين على حساب الضمان الاجتماعي، وعليه سيقفل الملف، وتذهب دماء الشهداء والجرحى وخسائر أهالي بيروت وضواحيها الجسيمة دون محاسبة ولا عقاب.
وفي عزّ الأزمة الخانقة، يستمرّ النهج نفسه في الصراع على جثّة النظام، وعلى مقاعد في حكومته، وكأنّ حكوماتهم السابقة لم تكن هي المسؤولة الفعلية عن سياسات الإفقار، وعن لبرلة الاقتصاد اللبناني وربطه نقدياً بالكامل بالدولار الأميركي، وعن ضرب قطاعات الإنتاج وتحييد اللبنانيين عن الاستثمار في الزراعة والصناعة والتكنولوجيا عن طريق فتح الأسواق وغياب التخطيط وأيّ شكل من أشكال دعم قطاعات الإنتاج وإغراء المقيمين على إيداع ما تيسر من نقد لديهم في البنوك مقابل فوائد وهمية انكشفت كذبتها أخيراً. ألم تكن الحكومات السابقة نفسها مسؤولةً عن عدم تسليح الجيش للتصدي للعدو الصهيوني وللإرهاب، ومسؤولةً عن انكشاف لبنان أمام ضغوط الخارج ووضعه تحت عباءة السياسة الخارجية الأميركية، كما كانت مسؤولةً عن عدم رسم علاقات سليمة مع سوريا، فأوقعتنا تحت هيمنة أجهزتها الأمنيّة تحت شعارات وحدة المسار والمصير؟ ألم تهلّل تلك الحكومات، وقواها الأساسية لكلّ من دفع حفنة من الدولارات، من "الطيب" طيب أردوغان، وصولاً إلى "شكراً قطر"؟ ألم يلتفّ أقطاب النظام والحكومات المتعاقبة حول "كوندوليسا رايس" في العام 2006 راجينها أن ترمي لبنانيين آخرين بالمزيد من صواريخ القتل والمجازر الجماعية؟ ألم يبشرّونا "بالسين سين" طريقاً للنهوض والتقدّم فتحلّقوا كلّهم مهلّلين لاتفاق الأوصياء؟ ألم يقيموا تحالفات رباعية ويفصّلوا قوانين انتخاب مذهبية مولّدة للحروب والانقسامات والفتن، كي يعيدوا إنتاج أنفسهم وليدعموا بعضهم بعضاً على حساب أيّ محاولة من خارج المنظومة للتغيير؟ تنقلّت البندقية من كتف إلى آخر، حتى وصلت إلى كتف السيّد ماكرون الذي ينتظره زعماء طاولة الاستقبال في قصر الصنوبر أن يأتي إليهم بحلول تعيد إحياء نظامهم نفسه.
وحدها الانتفاضة الشعبية، وتحديداً قواها الوطنية العلمانية هي التي تقدّمت بالطروحات والبرامج والمشاريع للتغيير، فطرحت مسألة تحميل الخسائر على الذين استفادوا من مرحلة الأرباح التي تحقّقت سابقاً وليس على حساب عموم المواطنين الذي تقوم قوى السلطة بتحميلهم هم أعباء الانهيار من خلال إنهيار سعر الصرف ورفع "الدعم" المزعوم عن السلع الأساسية، وبيع القطاع العام واستجداء قروض جديدة ستتحمّلها الأجيال القادمة. وقدّم الحزب الشيوعي برنامجاً لإدارة مرحلة انتقالية، على قاعدة تشكيل حكومة وطنية انتقالية من خارج المنظومة تكون أمامها مهمة تنفيذ خطة الإنقاذ الاقتصادي هذه، ومعها صياغة قانون انتخابي جديد على قاعدة النسبية خارج القيد الطائفي لتجري على أساسه انتخابات نيابية تؤسّس لدولة مدنية على أنقاض النظام الطائفي التابع المأزوم.
وفي هذا السياق، خاضت قوى الانتفاضة الشعبية عموماً اختباراً انتخابياً أولاً بعد 17 تشرين في انتخابات الجامعات الخاصة. ورغم أن هذه العيّنة التي تحوي طلاباً من الطبقة الوسطى والميسورة لا تعكس تمثيلاً للرأي العام عموماً، في ظلّ تعطيل انتخابات الجامعة اللبنانية من قبل القوى المتنفّذة فيها، إلّا أن السمة العامة الطاغية كانت انفكاكاً طلابياً واسعاً عن قوى السلطة ونجاحاً للوائح مدنية وعلمانية في معظمها بمواجهة قوى السلطة على أنواعها.
أميركا والعقوبات والتطبيع...
ووسط معمعة الفساد والاستغلال والنهب الطبقي والتبعية هذه، يأتي سيف العقوبات المسلط على حزب الله وحلفائه من قبل الإدارة الأميركية، ومعها قانون قيصر والعقوبات التي يفرضها على سوريا ومن يتعامل معها بما فيها مؤسسات لبنانية رسمية وخاصّة. ولا شكّ أن أثر العقوبات يشكّل ضغطاً كبيراً، بالأخص في ظلّ قدرة الولايات المتحدة على التحكّم بالنظام المصرفي والنقدي العالمي عموماً، وكتلتها التصويتية داخل صندوق النقد الدولي التي تعطيها اليد الأعلى في إقرار أو حجب القروض عن لبنان، ومعها أثمان كبيرة من تنازلات سياسية وسيادية واقتصادية، وقد تكون إحداها مسألة ترسيم الحدود والاعتراف الرسمي بحدود "إسرائيل" البحرية كما نصّ إعلان إطار الاتّفاق. وتشكّل العقوبات أيضاً ناخباً أساسياً في انتخابات رئاسة الجمهورية كما رئاسة المجلس بحال شغور أي منهما لجهة إقصاء أقطاب محدّدين من داخل النظام، ومن حلفاء حزب الله تحديداً عبر وضعهم على لائحة العقوبات. إنّ هذه الغطرسة الأميركية المدانة ما زالت تحاول فرض هيمنتها على لبنان، وفرض شروطها السياسية ومصالحها الاقتصادية عليه، وتحديداً لتأمين أمن العدو الصهيوني ونزع سلاح المقاومة عموماً، وإبقاء لبنان تحت عباءة سياستها الخارجية، بالإضافة إلى دخول الشركات الأميركية في مجال التنقيب عن النفط.
أمّا على المستوى الدولي، فلم يستوعب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد حجم الخسارة التي مُنيَ بها في الانتخابات الأخيرة، ويسعى صقور الإدارة والدولة العميقة إلى الاستفادة من الشهرين المتبقيين له لحين تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن، واستغلالها لتوجيه ضربات أمنية وربما عسكرية. وتشكّل هذه الفترة الفاصلة مرحلة ترقّب خشية حصول تطورات عدوانية متهوّرة قد تلجأ إليها الولايات المتّحدة المأزومة على كلّ الصعد السياسية والاقتصادية والصحيّة، بهدف تصدير أزمتها وعكسها على الخصوم كما على الحلفاء، على قاعدة إشعال الحرائق على أوسع نطاق لقطع الطريق على تقدّم قوى وأقطاب أخرى.
وإلى جانب مسار التهديدات الأمنية هذه، يتقدّم معها بشكل متسارع موضوع التطبيع الرسمي العربي، الذي انطلقت فيه كلّ من الإمارات والبحرين والسودان، لتلحق بالأردن ومصر والسلطة الفلسطينية في فتح علاقات سياسية ودبلوماسية واقتصادية مع العدو الصهيوني في خطوة تعتبر خيانة وطنية بحق القضية الفلسطينية التي يسعون إلى تصفيتها كما بحقّ شعوبها التي ترفض سياسات التطبيع هذه. وكانت أبرز الحملات السياسية والشعبية لمناهضة التطبيع في السودان التي انطلقت فيها حملة واسعة يقودها الحزب الشيوعي السوداني في مواجهة سلطة العسكر والمدنيين الذين يشكّلون امتداداً طبيعياً للأنظمة البائدة قبلها. وفي هذا الإطار لا بدّ من التنويه بأنّ الحزب الشيوعي اللبناني هو الحزب السياسي الوحيد في لبنان الذي رفض مفاوضات ترسيم الحدود مع العدو وعبّر عن ذلك في بيان رسمي وتحركات لمناصريه في منطقة الناقورة، ودعا إلى وقف المفاوضات التي يرعاها الأميركيون، وهم الداعمون بكلّ جبروتهم للكيان الصهيوني، والتي ستنتهي بحسب المسار الطبيعي بإقرار الجهة اللبنانية بحدود مفترضة لكيان لا نقبل الاعتراف به، لا مباشرةً ولا مواربةً. فلماذا التنازل والاعتراف الآن بعد أن فشل الأعداء في انتزاعه تحت قسوة الحرب المجرمة في تمّوز 2006 وما هي الأثمان المقابلة؟
*مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني