أين الإستقلال في ظل الانهيار الشامل؟

بمناسبة ذكرى الاستقلال، تتزاحم الأسئلة المتعلقة بالمناسبة، وبمدلولاتها وتتمحور حول العناوين التالية: هل يمكن الحديث عن استقلال حقيقي في ظل نظام الطائفية والتحاصص؟ هل يمكن أن تتحقّق مقومات الاستقلال مع استمرار وتعمّق التبعية؟

ألم يشكّل هذا النظام، بطبيعته ووظيفته وقواه وآليات عمله، عائقا أمام تحويل نضالات الشعب اللبناني وتضحياته إلى ما يستجيب لطموحات الغالبية العظمى من أبنائه؟ وكيف يصحّ التغنّي بالاستقلال مع وصول الأمور إلى هذا المستوى المريع من الإفقار والتهجير والتدمير والإساءة إلى أبسط مقومات الكرامة الوطنية من قبل منظومة النهب والقتل والفساد؟ وماذا سيبقى من قضايا ومعاني ومدلولات الاستقلال مع محاولات قوى المنظومة الطائفية المذهبية، مع قوى الرأسمال المالي والريعي، إقامة شكل من أشكال "الدولة الفيدرالية الطوائفية"، من خلال أطرافها، وكلّ على طريقته، في فرض قوانينه وأنظمته الخاصة به، وتدبير أمور "دويلته" و"مناطقه" و"جمهوره" عبر فتات "المساعدات"، ومن دون التورّع عن استغلال الانهيار وإثارة الاقتتال الداخلي لإعادة إنتاج سيطرة هذه المنظومة وفق صيغ طائفية جديدة بالتزامن مع إنضاج ظروف تسوية إقليمية دولية لم يحن أوانها بعد؟

واستتباعا، وبدل الشروع في معالجة الأزمة الشاملة الناجمة عن أكبر عملية نهب في التاريخ، بما يستجيب لما طرحته الإنتفاضة الشعبية، بتحميل "تحالف قوى السلطة والمصارف والاحتكارات" تبعات الإنهيار، وباعتماد سياسات اقتصادية ومالية واجتماعية بديلة، فإننا نشهد مزيدا من تحميل الشعب اللبناني بفئاته الكادحة والمفقّرة ثمن فشل هذه السياسات عبر التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والإلتزام بشروطه التي تقضي بالمزيد من الإستدانة مقابل إقرار رزمة من القرارات والإجراءات التي تصب في صالح أصحاب "الرأسمال والسلطة". ومثل هذا النهج يشكل إذعانا للضغوط وللشروط الأميركية والغربية المتعدّدة، ومؤشراته واضحة في التفاوض حول برامج "التعافي الإقتصادي"، والحدود البحرية، وفتح مسارات تطبيع غير مباشر مع العدو، كما جرى في إتفاق الإطارمع الكيان الصهيوني بدلا من الإلتزام بإتفاق الهدنة، وكما يجري اليوم في مسألة أنبوب الغاز "المصري"، والتعاون مع المندوب الأميركي- الإسرائيلي هوكشتيان في قضية تقاسم الغاز مع العدو الصهيوني على حساب حقوق لبنان في ثروته النفطية، وفي عدم توقيع المرسوم 6433 وفق الخط 29 وإرساله الى الأمم المتحدة. كل هذه المؤشرات، إن دلّت على شيء، فهي تدلّ على أن إستمرار بقاء هذا النظام، بتبعيته الرأسمالية وطائفيته، يتنافي مع مفهوم الإستقلال الحقيقي، من جهة، ومع إمكانية الخروج من الأزمة المتفاقمة، من جهة أخرى.

أما على الصعيد الإقتصادي - الإجتماعي فحدّث ولا حرج ، فبالرغم من الوعود التي جرى ويجرى ترويجها على هامش تشكيل الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها، فإن كافة المؤشرات واصلت تدهورها: معدلات النمو، ومعدلات التضخم والبطالة والفقر والهجرة، والعجز في المالية العامة والحسابات الخارجية، وإنهيار القوة الشرائية للدخل ومرافق الخدمات العامة الأساسية، وتفكّك منظومة شبكات الحماية الإجتماعية، وبخاصة الصحّية والتربوية منها، وإستمرارّ تعدّد أسعار صرف الليرة اللبنانية التي "إبتدع" مصرف لبنان بعضها لإطفاء خسائر القطاع المصرفي على حساب المودعين وبعضها الآخر خدمة لمصالح إحتكارية وزبائنية وطفيلية. كما تفاقمت كذلك أزمة المعيشة مع إرتفاع أسعار الدواء وتحرير أسعار المحروقات والكهرباء التي تضاعفت أكثر من عشرة أضعاف وإنسحبت إرتفاعا في تكاليف النقل وأسعار الخبز والسلع الضرورية. جلّ ما تفعله الحكومة هو إجتماعات صورية للجنة المؤشر تم فيها الإلتفاف على زيادة الإجور وإعطاء الوعود بتقديم بعض "المساعدات الاجتماعية" والمؤقتة على رواتب موظفي القطاع العام، والتي لم تشمل القطاع الخاص. ويجري ذلك في ظل ظروف معيشية خانقة بلغت فيها نسبة التضخم حدودا خيالية ( 700%)، بفقدان الأجور ما يزيد عن ال 90% من قيمتها الشرائية، وإتساع جيش المتعطّلين عن العمل، وإفقار الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، فلا رواتب لها ولا أجور، ولا حتى بطاقة تمويلية وعدوا بها، و"عالوعد يا كمّون". ولم نجد أحدا من لجنة المؤشر، يضرب يده على الطاولة، ويطالب بأولويات الحقوق الاجتماعية لهؤلاء جميعاُ، ويتمّ كل ذلك، بحضور وتواطؤ قيادتي الإتحاد العمالي العام وهيئة التنسيق النقابية، وعلى حساب أولويات الحقوق التي تتلخص بكلمتين هما: الأجر الاجتماعي الذي يشمل الرواتب والأجور وبدل النقل والكهرباء والسكن والتغطية الصحية الشاملة ومجانية ونوعية التعليم الرسمي. فالأجر الاجتماعي يشكل اليوم قوة الدفع المطلوبة لبناء التحالف الإجتماعي وتعديل موازين القوى وإحداث التغيير السياسي بقيام دولة علمانية ديمقراطية قادرة على تأمين هذه الحقوق.

   ولأن ما يجري في لبنان مرتبط أشدّ الإرتباط بما يجري في الأقليم، من مواجهات مترافقة مع مفاوضات على غير صعيد دولي وأقليمي وداخلي، جاء تشكيل هذه الحكومة بتفاهم إيراني وفرنسي وموافقة أميركية، في محاولة لمنع الإرتطام والإنهيار الشامل في مؤسسات الدولة الدستورية من جهة، وإجراء الإنتخابات النيابية في موعدها الدستوري لإنتاج أكثرية نيابية تنتخب رئيسا للجمهورية. لكن عملية تشكيلها، وما رافقها ويرافقها من تداعيات مستقبلية، يعبّران عن عمق الأزمة بما هي أزمة نظام، وعن أن صراع القوى المتحكمة بين أطراف منظومته الحاكمة هو صراع من أجل إعادة إنتاج صيغة محاصصة طائفية جديدة لهذا النظام. ولن تتوقف التداعيات عند حد معيّن، سواء في ما يتعلق بالتحقيق في إنفجار المرفأ وأحداث الطيونة أو في تصاعد لغة الخطاب السياسي المتبادل بين هذه الأطراف، أو حول الوضع الإقتصادي والإجتماعي المتدهور إلى مستويات كارثية، وإنهيار وإفلاس المؤسسات. هذا في الداخل، اما في الخارج فيجري التعبير عن ذلك في الموقف السعودي- الخليجي المستجد والمرفوض والذي يأتي في سياق مسلسل الضغوط والعقوبات على اللبنانيين، ويجد صداه لدى القوى السياسية الحاكمة التي يفتش كل منها عن كيفية تجديد ولاءاته الخارجية وتموضعه إستعدادا لحجز مقعد له عندما يحين أوان تجديد التسوية الطائفية الداخلية من ناحية، على وقع ما تشهده المنطقة من مفاوضات وتطورات لا تخلو من إحتمالات التصعيد العسكري والأمني أو التهدئة بنتيجة المفاوضات الأميركية- الإيرانية التي ستنعقد أواخر هذا الشهر في فيينا .

*****

في هذه الأجواء، وفي ظل الإنهيار السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وبعد إنتفاضة 17 تشرين التي ظهّرت أزمة النظام، وكشفت إلى حدّ كبير مدى تعارضه مع مصالح أغلبية الشعب اللبناني، وفتحت أفقا لإمكانية الفعل الثوري في المواجهة المفتوحة معه، يمكن النظر إلى موضوع الإنتخابات النيابية، إنطلاقا من عمق الأزمة ومن سعي قوى المنظومة الحاكمة، ورعاتها الدوليين، إلى إستخدام الإنتخابات كمنطلق لتجديد أو تعديل ميزان القوى فيما بينها في محاولة إعادة إنتاج نظامها، ولو بصيغ أخرى، باستخدام كل الوسائل الممكنة، من تصعيد الخطاب الطائفي، إلى صوغ التحالفات وتركيب اللوائح، إلى محاولة إختلاق لوائح مموّلة ومدعومة إعلامياُ تحت إسم "المعارضة" لضرب لوائح التغيير الديمقراطي التي ستعمل القوى العلمانية والديمقراطية التي شاركت في إنتفاضة 17 تشرين على تشكيلها.

   لا يمكن فصل المواجهة في الإنتخابات النيابية عن خوض كل المعارك الوطنية والسياسية والإجتماعية، بالإرتكاز على المساهمة النشيطة في ساحات الإنتفاضة على إمتداد الوطن. وعليه فإنها إستكمال لها، انطلاقا من روح إنتفاضة 17 تشرين، وضد قانون الإنتخاب الذي أصبح أحد الأدوات التي يستند إليها تحالف أحزاب السلطة الطائفية، وضد هذه القوى التي أقرته والممثلة لمصالح الرأسمال المالي والريعي. وبهذا المعنى فإنها معركة سياسية بامتياز ومناسبة لتظهير الموقع والتموضع مع سائر قوى التغيير الديمقراطي في سياق المواجهات النقابية والقطاعية والبلدية وسواها. وانطلاقا من المسار العام الذي رسمته الإنتفاضة، لا يمكن إخلاء الساحة لقوى السلطة، أو لمن يسعى لإجراء "إستبدال طبقي" من نفس طبيعة هذه القوى، تحت عنوان "اعتراضي"، من خلال تغيير الوجوه وملء الفراغ.

وبالتالي، فإن الإنتخابات هي مناسبة لمواصلة طرح برنامجنا السياسي والإقتصادي والاجتماعي من أجل التغيير، ولإطلاق النشاطات والتحرّكات، وهي فرصة لاختبار وثيقة الحزب الفكرية – السياسية – البرنامجية ونقاشها مع الجماهير الشعبية في سياق المعركة المتواصلة التي نخوضها في مختلف الميادين، وبالتحالف مع قوى التغيير الوطني والديمقراطي والعلماني واللاطائفي. وستأخذ مشاركة الحزب في هذه الانتخابات مستويات مختلفة، من ترشيح رفاق الى تبني ترشيح أصدقاء والتصويت لمرشحين ولوائح مستقلّة عن أحزاب السلطة تتوفّر في برامجها تقاطعات مع برنامج الحزب، بالتزامن مع مواصلة النضال لفضح القانون الإنتخابي وقوى السلطة الفاسدة التي أقرّته، ومع الإستمرار بتظهير مواقفنا من النظام السياسي الطبقي وأطرافه المختلفة.

هي مواجهة مفتوحة، فلنستعد لها.