أوّلها، انتفاضة 17 تشرين وسقوط نظام الطائف، وفشل رئيس الجمهورية ميشال عون بإقامة حوار بين أطراف المنظومة العاجزة عن إعادة إنتاج صيغة طائفية جديدة لنظامها السياسي بغياب رعاتها الإقليميين والدوليين. ومع ارتفاع حدّة الخطاب الطائفي بين أطراف هذه المنظومة - حماية لمصالحها الطبقية - تزداد الضغوط الخارجية على لبنان، من بوابة القرارين 1559، و1701 الواردين في "المبادرة" الخليجية، ومن خلال ترسيم الحدود عبر شروط هوكشتين حول النفط والغاز، وعبر الإجراءات المسمّاة " إصلاحية " لصندوق النقد الدولي والموازنة التقشفيّة ، وقد جاء توقيت إعلان قرار سعد الحريري بخروجه من الحياة السياسية، في سياق هذه الأحداث وما يُحضّر للبنان قبيل استحقاق الانتخابات النيابية.
ثانيها، إنهيار النموذج الاقتصادي والمالي الذي أعاد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في غضون ثلاث سنوات إلى ما دون 40% من مستواه السابق (2018)، ودفع غالبية السكان نحو مثلّث الفقر والبطالة والهجرة.
ثالثها، صدمة جائحة كورونا التي اجتاحت العالم وعرّت وكشفت ضعف النظام الصحي اللبناني وعدم جهوزيته لمواكبة تبعات هذه الجائحة، لا على المستوى الصحّي فقط بل على المستوى الاقتصادي الأعمّ والأشمل وسط قصور الدولة الفاضح عن دعم وحماية مؤسّسات الإنتاج على غرار ما قامت به غالبية الدول الأخرى.
رابعها، إقتراب موعد إجراء الانتخابات النيابية اللبنانية التي تضغط القوى الدولية لمنع تأجيلها، وسط استمرار الإنكار الفظيع من جانب المنظومة الحاكمة لمسؤوليتها المباشرة عن الانهيار الاقتصادي الحاصل، واستمرار سعيها الحثيث للإبقاء على النظام الطبقي الطائفي السائد.
وعلى الصعيد الخارجي، وبالتحديد العربي والإقليمي، بقي الاستهداف الامبريالي والصهيوني للعديد من الدول العربية – بما فيها لبنان - قائما ومتصاعداً على قدمٍ وساق مع ارتدائه أشكالاً وصيغاً متنوّعة من ضمنها المضيّ في تشجيع الحروب والفتن الأهلية المتنقّلة وتعزيز ونشر القواعد العسكرية والأجهزة الاستخبارية وتوريد الأسلحة الفتّاكة وفرض أقسى أنواع الحصار والعقوبات والقيود الاقتصادية والمالية والنقدية.
وقد وصلت هذه الضغوط ..
لقد قطع التحضير للمؤتمر الثاني عشر شوطاً كبيراً، وأنجز أعضاء الحزب معظم اجتماعاتهم التحضيرية – كلٌّ في منظّمته - وناقشوا الوثائق الفكرية والسياسية والتنظيمية التي سوف تقدّم إلى المؤتمر وساهموا في إغنائها وانتخبوا ممثلين عنهم لحضور المؤتمر في اجواء ديمقراطية.
وعشية انعقاد جلسات المؤتمر الوطني الثاني عشر ، ثمّة الكثير من التحدّيات التي يتوجّب على الشيوعيين مواجهتها ، بما يعزّز هوية الحزب ووحدته الفكرية والسياسية والتنظيمية، ومن ضمن هذه التحدّيات:
- ضرورة الإحاطة المشتركة بأبرز التحوّلات الجارية في البنية الاجتماعية اللبنانية، بما يساعد على تحديد سمة المرحلة التي تقضي بتحرير الدولة من قبضة تحالف الزعامات الطائفية وصقور الطغمة المالية والريعية والاحتكارات، وصولاً الى بناء الدولة الديمقراطية العلمانية، دولة التنمية والعدالة الاجتماعية. وانطلاقاً من هذا التحديد، يجب أن يصار إلى إعادة هندسة التحالفات وفق أوسع تحالف ممكن للقوى الاجتماعية التي أضرّ بها الانهيار الاقتصادي والمالي الحالي ، أي التحالف الذي تلعب به الطبقة العاملة دورها المطلوب بحيث يستطيع هذا الأخير أن ينجز ما عجزت عن إنجازه البرجوازية من مَهمات الثورة الوطنية الديمقراطية. لذلك فإنها (كما حزبها) مدعوة لا بل ملزمة على إقامة التحالف الطبقي العريض بدءاً من الطبقة العاملة والقوى النقابية النظامية وغير النظامية التي تبحث عن الانعتاق من أسر الصيغة الراهنة للاتحاد العمالي العام، ومروراً بالشرائح الدّنيا والمتوسطة من "الطبقة الوسطى" في المدينة والريف، بمن فيهم - المعلّمون وأساتذة الجامعات وأصحاب المهن الحرّة وموظّفو القطاع العام والشباب المُعطّلون عن العمل.
- أن التحالف المنشود يجب أن يشمل أيضاً أطيافاً من البرجوازية المرتبطة بالانتاج المادي(ربطاً بسمة المرحلة)، وكلّ من تعنيه مسألة كسر الطوق الطائفي والمذهبي ، ليشمل أيضاً ما يمكن فرزه وإنتقاؤه من منظّمات مدنية غير مرتبطة بأجندات القوى الطائفية ورأس المال الكبير والسفارات الأجنبية والمنظّمات الدولية الدائرة في فلكها. مع التأكيد في ظلّ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي على تحرير النضال الاجتماعي من طابعه المطلبي البحت، وعلى تعطيل الدور الوظيفي للطائفية التي لا تشكّل السبب الجذري المعرقل للتغيير بمقدار ما تشكّل الأداة التي جرى استخدامها على الدوام للحؤول دون تحقّق هذا التغيير.
ومن التحدّيات أيضاً على المستوى العربي، هو تقييم تجربة الانتفاضات العربية، على الأقل في صيغتها الأولى بدءاً من عام 2011، الذي انطوى على ترسّخ القناعة بأن أزمة البديل الثوري في قيادة حركة التحرّر العربية لا تزال مستمرّة بل متصاعدة، في الوقت الذي كان يتعاظم فيه حجم التآمر الامبريالي على المنطقة. وهو ما شكّل عاملاً أساسياً في صعود حركات الإسلام السياسي عموماً من جهة، إلى جانب تنامي ظاهرة الممانعة والآثار المتناقضة للدور الايراني من جهة أخرى. ولم يصل اليسار العربي في تعاطيه مع الخطر الوجودي للهجوم المثلّث الأضلاع - الامبريالي والصهيوني والرجعي - إلى الحدّ الذي يمكّنه من تعبئة الشعوب العربية وتشكيل كتل شعبية تاريخية وازنة في مواجهة تحدّيات هذه المرحلة. فتجسيد التلازم بين مهمات التحرّر الاجتماعي والتحرّر الوطني يتطلّب إنكباب اليسار - كلٌّ في بلده - على تطوير قدراته وتحالفاته وصولاً إلى بناء كتل شعبية واسعة. وهذا لا يتعارض مع حقيقة أن إشكالية العلاقة بين التغيير في بلد معيّن والتغيير في العالم العربي ككل خضع لنقاش مركّز في اجتماعاتنا الحزبية. والإجابة على هذة المسألة ترتبط بالكثير من الموضوعات: نظرة كلّ مكوّن من مكوّنات حركة التحرّر إلى العلاقة بين قضية التغيير وقضية التحرير، ومسألة التطوّر المتفاوت بين البلدان العربية المختلفة، وواقع موازين القوى ومدى نضج الشروط الذاتية في كلّ بلد.... وهذه كلّها موضوعات سوف تبقى منفتحة على نقاش لا ينتهي بشكل حاسم إلّا مع تطوّر مجرى النضال.
كذلك فإن من ضمن التحدّيات التي يطرحها المؤتمر وجوب بلورة وتحديد توجّهات برنامجية واضحة والاتفاق الفعلي عليها، وترجمة هذه التوجّهات إلى خطط عمل مفصّلة بمشاركة ومساهمة كلٍّ من المنظّمات والقطاعات الحزبية بحيث يشعر الرفاق بامتلاكهم الفعلي لهذه الخطط (بدلاً من اعتبارها مسقطة من "فوق"). ويجب أن يرافق إنتاج تلك الخطط إعداد دليل عمل للمنظّمات والقطاعات يساعدها في استخلاص وتحديد مسؤولياتها الملموسة والمباشرة عن تنفيذ نصيبها من المهمات البرنامجية المقرّة. وينبغي أن تتولى الهيئات الوسطى مواكبة ومتابعة عمل المنظّمات والقطاعات الحزبية والسهر على انتظام عملها، بالاستناد إلى الاستخدام الفعّال والهادف لشبكات التواصل الاجتماعي، مع الطلب إليها بإعداد تقارير سنوية مختصرة عن تقدّم الأعمال في كلٍّ من تلك المنظّمات والقطاعات (عدد النشاطات ونوعها والمشاركون فيها، عدد الانتسابات الجديدة إلى الحزب، عدد المتسرّبين، والمهاجرين والحفاظ على العلاقة التنظيمية بهم والحملات المالية،...)، على أن تعرض المحصّلة العامة لهذه التقارير على الهيئات القيادية المعنية. وتحقيق ما سبق من مهمات يتطلب توجيه جهد الحزب بالأولوية نحو خلق وإنتاج وتطوير المزيد من الكوادر الحزبية، وبخاصة الشابّة منها، في الهيئات الوسطى والهيئات القيادية.
ختاماً، لا بدّ لقيادة الحزب الجديدة من متابعة النضال من أجل تجاوز الصعوبات البنيوية والسياسية المتراكمة في المجال الفكري والوطني والسياسي والاجتماعي، وأن يساهم المؤتمر بتحليل الواقع الملموس وظروفه الملموسة، لإنتاج المشروع السياسي التغييري، وكيف يتمكّن الحزب من تحقيقه، مقدّماً أجوبة موحّدة وخطاباً واضحاً في انحيازه الطبقي.