من هذه الحاجة العلمية بالذات، نشأت الحركة الطلابية في لبنان، وبدأت صراعًا مريرًا مع السلطة التي كانت متمركزة بيد تحالف الاقطاع والبرجوازية، وقدمت الشهداء من أجل انتزاع مطلب إنشاء الجامعة الوطنية، وهي تمكنت من تحقيق هذا الحلم لجميع اللبنانيين ولا سيّما الفقراء منهم.
لكن التعليم التخصصي ولا سيما منه الطبابة والهندسة، لم يأخذ حيزًا كبيرًا في الجامعة الوطنية وبقي محصورًا بعددٍ معين من المقاعد سنويًا، ما جعل هذه الاختصاصات صعبة المنال لدى الطلاب الفقراء. وعلى الرغم من أن طيفًا واسعًا من الطلاب الميسورين لا يتحصلون تقديرات عالية في التعليم الثانوي، إلا أنهم يجدون مقاعد لهم في الجامعات الخاصة، ومع ذلك فإنهم يبلون بلاءً حسنًا في التخصصات التي يختارونها.
من هنا، كان لوجود قوى يسارية في المجتمع اللبناني دور إيجابي من جهة تمكين الفقراء من التخصص في المجالات العلمية التي لم تكن بمتناولهم في بلدهم الأم، فكانت المنح الدراسية المقدمة من دول المعسكر الاشتراكي هي ملاذهم. وقد قدمت تلك الدول فرصًا للطلاب الطامحين، واستقبلتهم في جامعاتها معززين مكرمين، لا يقف في وجههم أي عثرات مادية أو غير مادية لنيل أرفع الشهادات، وهم منتشرون في مدننا وقرانا ويقدمون خدمات للمواطنين في جميع الاختصاصات ويلقون سمعة حسنة.
مع زوال هذا المعسكر زالت الفرص المتاحة للطلاب الفقراء، وإن كان التعليم مستمرًّا في دول بتكلفة أقلّ بمرّات ممّا في دول أُخرى في العالم؛ ففي بلدان اوروبا الشرقية تتراوح، حاليًا، التكلفة السنوية للطالب بين خمسة وستة آلاف دولار اميركي، وهذا الرقم يتضاعف في غير تلك الدول.
لكن أزمة سعر صرف الدولار انقلبت على جميع الطلاب اللبنانيين الذين يتابعون دراساتهم في الخارج، وها هي تطال ايضًا الذين يتعلمون في الجامعات الخاصة في لبنان، وما قرار الجامعة الاميركية منذ أيام بالنسبة إلى رفع قيمة صرف الدولار الطالبي الى 3900 ل. ل. إلا شكلاً من أشكال ضرب التعليم في هذا البلد وربطه بالطبقة الميسورة فقط.
إذًا ما العمل؟ انه السؤال الأصعب والأهم الذي على الطلاب والأساتذة والجامعة الوطنية والوزارة المعنية، بلورة اجابته بما يحفظ مستوى الجامعة وحقّ الطلاب في التعليم معًا.
في ظل الازمة الخانقة والتدهور المريع الذي يطال اللبنانيين ومؤسساتهم ودولتهم على حدٍ سواء، فإن المطلوب قرار ثوري يتخذ بدون تردد، يقضي بتوسيع هوامش الدخول الى الاختصاصات ذات الشروط التعجيزية، كما هو الحال في الطب والهندسة والنطق وغيرها؛ فمقاعد هذه الاختصاصات في الجامعة اللبنانية محصورة بأعداد قليلة جدًا، وفي هذه الحال يفقد طلاب كثيرون، لديهم معدلات عالية، حقهم في التعليم في الجامعة اللبنانية.
الجدير ذكره ان هناك طلاب تفوق معدلاتهم الـ 14 من 20 وهم قادرون على تخطي المراحل التعلّمية والحصول على شهادات في الاختصاصات المذكورة، وأبلغ دليل على ذلك انهم ينجحون بتفوق في الجامعات الخاصة وهي التي تصنف عالميًا قبل جامعتنا الوطنية؟!
ليس هنا المجال لطرح آلية تفصيلية لتعديل الشروط التي تضعها الجامعة اللبنانية للدخول الى كلياتها، إنما واجب عليها، الآن وقبل الغد، الشروع مباشرةً في إعادة النظر بمندرجات تلك الشروط بغية فتح آفاق جديدة لطلابنا ولا سيما الفقراء منهم، في ظل الغيمة السوداء التي تخيم فوق الجامعات الخاصة.
كما إنّ المطلوب أيضًا هو إعادة الاعتبار للجامعة اللبنانية كصرح أكاديمي وطني بامتياز، وذلك يكون عبر الابتعاد عن التعيينات القائمة على المحسوبيات إن في رئاستها أو في عمداء الكليات أو حتى في المجالس الطلابية ودورها المريب في توجيه سياسة الكليات، فضلاً عن سيطرة العقلية الميليشاوية عليها. ثم يجب تفعيل دور الجامعة اللبنانية لتكون صرحًا انتاجيًا لا يقتصر فقط دورها فقط على تخريج الطلاب؛ بحيث يجري انشاء مراكز ابحاث جديدة فيها وتطوير الموجود منها، وتنسج علاقات جدية مع سوق العمل بجميع أصنافه، وتوزيع الكليات بشكل مدروس على المناطق وفق رؤية علمية، لتساهم في انعاشها وتطويرها، وربط الوزارات المعنية بكليات ذات صلة، لتشكل حلقات منسجمة فيما بينها ومنتحة في سياق تنموي شامل؛ كأن يجري اقامة علاقة عضوية بين كلية الصحة ووزارة الصحة والمستشفيات التخصصية ومراكز الأبحاث والتحليل والمختبرات الطبية، وحلقة مماثلة بين كلية الزراعة ووزارة الزراعة والمزارعين والمؤسسات الصناعية ذات الخصائص الزراعية، بحيث يكون للجامعة دورًا رئيسًا في تطوير المنتجات والصناعات الزراعية وبالتالي المساهمة في نهضة هذا القطاع ولا سيما في ظل الحديث الجاري عن تحويل الاقتصاد الوطني من ريعي الى منتج.
هكذا يمكن للجامعة الوطنية أنّ تساهم بفعالية في رفع مستوى التعليم ورفد الوطن بكفاءات علمية والمشاركة بفعالية في الدورة الاقتصادية، وفتح أبواب التخصص لمن يستحق وليس فقط لمن يملك أكثر.
إذًا فلتكف السلطة عن اعتبار الجامعة اللبنانية مؤسسة زبائنية ويرفع القيمون أيديهم عنها، ويُترك مصيرها لأهلها الغيارى عليها على مصلحتها ومصلحة كل البلد.