الدولار الطلابي: من الإقرار إلى التسويف


مع انفجار الأزمة الإجتماعية النقدية في البلد، والتي أدّت إلى ضائقة إقتصادية حاصرت الغالبية العظمى من الشعب اللبناني، ونتج عنها هبوط حاد في مستوى معيشته إلى حدود خط الفقر، وأصبح محاصراً بين متطلبات حياته الباهظة التكاليف نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار وارتفاع الأسعار وجنونها وبقاء المداخيل على حالها، لا بل تدنّت عند شرائح عديدة من المجتمع. هذه الأزمة أطاحت باستقرار معظم العائلات والأسر التي بنت عيشها على إنتاج معيّن وزّعته وفق الاستقرار النسبي للأوضاع الاقتصادية السائدة، ولعلَّ المظهر الأبرز لتلك الأزمة تجلّى عند الأسر والعائلات التي أرسلت أولادها للتعلّم في الخارج وفق حسابات دقيقة و محسوبة، مبنية على استقرار سعر الصرف الرسمي للدولار ١٥١٥ ل.ل. هذه العائلات تنتمي إلى فئات الموظفين والعسكريين والمتقاعدين من كليهما، إضافة لبعض أصحاب المهن الحرة وصغار التجار والمزارعين، باختصار جميع هؤلاء ينتمون إلى فئة محدودي الدخل، بنَت التزاماتها على أساس مداخيلها وفق السعر السائد المثبت منذ سنوات.

جاءت الأزمة وأطاحت بهذا الاستقرار، وكان أوّل ضحاياها "الطلاب الموجودون" بالخارج، والذين يتلقّون مصاريفهم وأقساطهم من ذويهم الذين أصبحوا بدورهم عاجزين عن تأمين تلك المستحقات.

في ظلّ هذا الواقع كان لا بدَّ لهذه الشريحة المتضرّرة والتي استشعرت خطر ضياع مستقبل أولادها أن تتداعى لعقد سلسلة اجتماعات شارك فيها جميع من جمعتهم هذه الأزمة على اختلاف انتماءاتهم الجغرافية والمناطقية والطائفية واعتبارهم أن الأزمة أزمة وطنية وإنسانية يقتضي معالجتها من منطلق وطني وإنساني، فكان لا بدّ من إيجاد صيغة تحفظ حقّ هؤلاء الطلاب في التعلّم وفق قدرة ذويهم مع تحمّل الدولة مسؤولية معالجة هذه الأزمة ومن هنا كانت فكرة الدولار الطالبي ودعمه من قبل الدولة على أساس السعر الرسمي أي ١٥١٥ ل.ل أسوةً بسياسة الدعم للقمح والمحروقات والدواء، حيث إن دعم هؤلاء الطلاب لا يقلّ أهمية من دعم هذه المواد.طُرحت هذه الفكرة وتمّ النقاش حولها على مختلف الصُعد حيث خلُص إلى تبنّي أولياء الطلاب لاقتراحات تضع أسّس الحلِّ للعام الحالي وصولاً حتى تخرّج هؤلاء الطلاب العالقين حالياً في الخارج وهذه المقترحات تمثّلت بالتالي:
• تحويل المبالغ اللازمة لكلّ طالب لبناني في الخارج بالعملة الأجنبية وفق وثائق تحدّد بموجبها المبالغ المطلوبة وتتضمّن تكاليف الأقساط الجامعية وإيجارات السكن والمعيشة على أساس سعر الصرف الرسمي للدولار ١٥١٥ ل.ل .
• فكّ القيود عن الحسابات بالعملة الأجنبية العائدة للطلاب ولذويهم، وتحويل المبالغ المطلوبة بموجب الوثائق الرسمية التي تحدّد قيمة تلك المبالغ.
• اعتماد هذه الآلية حتى انتهاء سنوات التخرّج لكلّ الطلاب الذين يتابعون دراستهم في الخارج بدءاً من العام ٢٠٢٠/٢٠٢١ .
• تشمل هذه الآلية الطلاب الجدّد الذين تسجلوا للعام الدراسي ٢٠٢٠/٢٠٢١.

حاول الأهالي عبر ممثليهم أن يعملوا على التقدّم بمشروع قانون معجّل مكرّر أمام مجلس النواب يتضمن هذه المطالب، وأن يكون موقّعاً من ممثلين عن الكتل النيابية كافةً، ولأجل ذلك حصلت لقاءات مع هذه الكتل وعقدت اجتماعات جرت خلالها نقاشات مستفيضة حول المشروع وتبعاته المالية والاجتماعية، غير أن تلكؤ بعض الكتل وعدم جدية البعض الآخر، فيما اختار آخرون أخذ الوقت لدراسة كلفته المالية وكذلك لإجراء تقيّم لطبيعة المستفيدين منه وتوزّعهم وذلك تبعاً للمصالح الشعبوية. لقد تصرّفت معظم تلك الكتل مع ممثلي الأهالي بمواقف استهلاكية، تعطيهم من طرف اللسان حلاوة، بأنّ لهم الحقّ في هذه المطالب وهي تؤيّد ذلك، ولكنها تتهرّب في الوقت نفسه من الإلتزام بتقديم المقترحات اللازمة أمام المجلس النيابي، حتى أن بعضهم أبدى أسفه لتورّط هؤلاء الأهالي بإرسال أبنائهم إلى الخارج بغية تعليمهم، وهو ما كان له الأثر السلبي في نفوسهم وزادهم قناعة بأنّ هذه الطبقة السياسية الفاسدة هي من تسبّب في سلسلة الأزمات القائمة على الصعد البيئية والتعليمية والاجتماعية، برز أثناء ذلك امتناع أكثرية أحزاب السلطة عن تبنّي هذه القضية والسير بها، واكتفت جميعها بإعلان مواقف التأييد العلني، كما سجّل غياب كامل للاتحاد العمالي العام عن المطالبة بهذا الموضوع، حتى أنه لم يتطرّق إليه في بياناته لا من قريب أو بعيد، وعلى خلفية هذا الموقف رفض الأهالي وجود رئيس الإتحاد بشارة الأسمر بينهم في أحد الإعتصامات واستنكارهم بعدم تبنّي الاتحاد لمطلبهم بتحقيق الدولار الطلابي. إنّ
هذا الواقع دفع بكتلة الوفاء للمقاومة إلى تبنّي تقديم مشروع قانون معجّل مكرّر للمجلس النيابي بنسخة أخرى اختُزلت فيه مطالب الأهالي بمطلب واحد فقط هو السماح بتحويل مبلغ عشرة آلاف دولار على أساس سعر الصرف الرسمي للدولار ١٥١٥ ل.ل كحدٍّ أقصى لكلّ طالب يدرس بالخارج على أن يكون هذا الطالب مسجلاً قبل العام ٢٠١٩، وذلك وفق وثائق رسمية تشمل الأقساط الجامعية وعقود إيجار السكن وتكاليف المعيشة على أن يُعمل بهذا القانون لعام دراسي واحد هو ٢٠٢٠/٢٠٢١ على أن يتمّ التحويل من حسابات الأهالي بالعملة اللبنانية ومهما كان نوع هذه الحسابات (جارية أو توطين) كما يشمل ذلك الذين ليس لديهم حسابات مصرفية.

وبعد طول مماطلة، أُقرّ القانون في مجلس النواب وحمل الرقم ١٩٣ ووقّعه رئيس الجمهورية ونُشر في الجريدة الرسمية وجاء محدّداً قيمة الاستفادة منه بمبلغ متواضع لسنة واحدة فقط، حارماً الطلاب الجدد من أي استفادة منه ومبقياً الباب مفتوحاً على أزمة تطال الطلاب في السنوات المقبلة. وقد قبل الأهالي بهذا القانون على أمل تطبيقه بأقصى سرعة تحت ضغط الأوضاع المزرية التي رزح تحت وطأتها الطلاب في الخارج، فمنهم من ترك بيته، ومنهم من تلقى إنذارات من جامعاتهم لدفع الاقساط تحت طائلة الفصل من الدراسة وحجبهم عن مواقع التعلّم عن بعد، ومنهم أيضاً من لم يبقَ لديه المال ليعيش، قبِل الأهالي على قاعدة خذ وطالب وذلك بالرغم من النواقص التي شابت القانون معتبرين أن صيغة الإلزام لمصرف لبنان بإلزام المصارف إجراء التحويلات اللازمة فيها نوع من الضمانة، وذلك بعد معاناة مع مصرف لبنان الذي ماطلَ سابقاً وتذرّع بمختلف الحجج والذرائع بعدم قدرته على إلزام المصارف بإجراء تلك التحويلات نظراً لعدم وجود الغطاء القانوني وأصدر في حينه عدة تعاميم غير ملزمة للمصارف والصرافين بإجراء تحويلات وفق سعر المنصة الرسمية لمصرف لبنان على أساس سعر ٣٩٠٠ ل.ل للدولار وهو ما أتاح لهؤلاء الصرافين للتلاعب باجراءات التحويل وإعطاء الأهالي مبالغ زهيدة مقابل التوقيع على مستندات تتيح لهم قبض الفرق بين ما يأخذه ولي أمر الطالب وما يستحق له .هذا الإلزام الوارد في القانون أعطى نوعاً من الضمان للأهالي الذين وبعد انتظارهم المرير لسبل سلوكه طريقه الروتينية بين المجلس والرئاسة وصدوره في الجريدة الرسمية تحت عنوان الدولار الطالبي، وبدل أن يكون إصداره نهاية رحلة المعاناة للطلاب وذويهم، وجد الجميع أنفسهم أمام مرحلة جديدة من التعقيدات، عنوانها التهرّب من التطبيق والتسويف والمماطلة.

لقد ذهب الأهالي إلى المصارف، التي أبلغتهم أنها لم تتلقَ أية تعليمات أو تعاميم من قبل مصرف لبنان بهذا الشأن، ولدى مراجعة المسؤولين بهذا الأمر، ومراجعة هؤلاء لحاكم مصرف لبنان، تذرّعوا بعدم وجود آلية تطبيقية لهذا القانون، وهذه الآلية ينبغي أن تصدر عن وزارة المالية، التي بدورها تذرّعت بعدم وجود مجلس وزراء في ظلّ حكومة مستقيلة، دون أن تبادر إلى وضع تصوّر لتلك الآلية، وألقت بدورها المسؤولية باتجاه الأمانة العامة لمجلس الوزراء... وهكذا تقاذفت الجهات الرسمية المسؤولة الكرة من جهة إلى أخرى ووجد الأهالي أنفسهم مجدّداً أمام حالة من الضياع سببها التسويف والمماطلة من قبل السلطة التي مارست النهب بكلّ اشكاله لمقدرّات الدولة والمجتمع، بحيث بات الجميع عاجزاً عن تلبية احتياجاته الحياتية من عيش وطبابة وتعليم. لقد جاء بالقانون شروطٌ لها طابعٌ تنظيميٌ لحالات الطلاب المستحقين وبقيت الإجراءات الشكلية حول كيفية سير الأمور المتعلقة بتقديم الطلبات ومسارها الإداري والجهة المكلّفة بالبتِّ بها، وهي أمور شكلية ينظر إليها أولياء الطلاب على انها من اختصاص حاكم مصرف لبنان وهو الجهة الصالحة لذلك، وعلى خلفية هذا الرأي جرى بتاريخ ١٨/١١/٢٠٢٠ الاعتصام أمام مصرف لبنان وأيضاً التحرّك باتجاه بعض المصارف للإشارة إلى أن حلّ المشكلة يكمن بالعلاقة بينهما. تحت وطأة هذه الضغوط دفع الأهالي إلى الانتظام مجدّداً للقيام بسلسلة خطوات تصعيدية، ولا سيما أن الوقت لم يعد متاحاً للانتظار، حيث تطرح عدة أفكار للتصعيد منها التوجّه نحو المحاكم والقضاء على الرغم من ضعف الثقة بمعظمه، وأيضاً باتجاه المقرات الرسمية والمرجعيات بإلاضافة لسلسة تحركات في الشارع بالرغم من إجراءات الحظر والتعبئة العامة حيث لا بدّ من المواجهة لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم.

يدرك الأهالي ان أزمة تعليم أبنائهم، وحلّ مشكلتهم ليس نهاية أزماتهم، فهم يعلمون بأنهم يواجهون أزمة مركّبة، فبالإضافة لمشكلة التحويلات والدعم المطلوب على هذا الصعيد يبقى الوضع المعيشي السيء الذي يرزح تحته غالبية هؤلاء بالإضافة لمشاعر القلق على المصير والمستقبل الغامض الذي ينتظر أبناءهم، والذين تترسّخ عندهم القناعة بمسؤولية النظام القائم عن كلّ الأزمات، لا بل هو ولّادٌ لهذه الأزمات، والحلّ الحقيقي والفعلي للمعالجة يكمن في عملية تغيير هذا النظام الفاسد القائم على المحاصصة والزبائنية والتنفيعات واستبداله بآخر قائم على العدالة وسيادة القانون وإتاحة الفرص أمام الجميع للعيش بكرامة واحترام.