ربَّ ضارّةٍ نافعة
واليوم، جاءت أزمةُ كورونا لتفتَحَ العيونَ وتوقظَ بالوقت ذاته الوعيَ حولَ المسألةِ البيئيّة، إن من خلالِ اعتبارِ البعض أنَّ الكوكبَ يأخذُ استراحةً من النّشاط البشريّ أو عبرَ الإشادة بالعودةِ إلى الأرض والدّعوة إليها لما فيها منْ فوائدَ نفسيّةٍ وحياتيّة، إلخ. فما هو شكلُ علاقتنا بالطّبيعة؟
للنّجاة قاربٌ واحد
إنّ الإنسانَ منذ تاريخِ تطوّره هو جزءٌ من الطّبيعة وليس خارجاً عنها كما روّجَ المثاليّون عبرَ التّاريخِ. ومن هذا المنطلقِ ترتّبَ على الإنسانِ أنْ يُنشِئَ علاقاتٍ تضمن استمراره بوحدتهِ مع الطّبيعة وليس بفوقيّةٍ عليها. ويُحدّدُ المجتمعُ علاقةَ النّاس بالطّبيعة هذه في نمطِ الإنتاج الخاص بكلّ مجتمع والّذي يحدّدُ بدوره كيفيّة تأثير النّاس على الطّبيعة وتأمينهم لمواردهم وتوزيعها إلخ. فمن هذا المنطلق بالذّات، إنّ أيَّ محاولةٍ للعثورِ على قارب نجاةٍ ينقذنا والطّبيعةَ باعتمادِ أفكارٍ لا تأخذُ بالاعتبارِ الواقعَ الاستغلالي لهذه الطبيعة، محكومٌ عليها بالفشل. وهذا ما أصبحَ اليومَ واضحاً كلّ الوضوح.
بين الواقع والتّضليل
حاولَ الكثيرُ من "البيئيّين" الهروبَ من واقعِ مواجهة الرّأسماليّة ونمطِ إنتاجها الذي يدمّرُ بصيرورته الطّبيعة لكونها تشكّل مورداً لهذه الرأسمالية عبر استغلال كل ما يمكن استغلالُهُ فيها من أجلِ غايتها الأخيرة، أي الزّيادة الربحيّة. تُصوّرُ هذه النزعاتُ الهاربةُ الإنسانَ وجشعه على أنّه "الشّر الكبير" فتركّزُ على "عدد السكّان" أو غيره من المفاهيم الّتي، وحتّى إذا كانَ لها تأثيرٌ قليلٌ، تُعمي النّظرة عن العلم؛ عن أنَّ - وعلى سبيلِ المثال- سلوكَ مليار شخصٍ من فقراءِ الكوكب لا يؤثّرُ على الطّبيعة مقدارَ تأثيرِ شركةٍ رأسماليّة واحدة. وإن كانَ هذا التأثيرُ من الأفرادِ حاصلاً بالفعل، فهو حاصلٌ بواسطةِ قواعدِ الرأسمالية وتفاعُلها مع البيئة، فكلّ فقراء بنغلادش، تمامًا كما بيئة بلدهم الأكثر تلوّثاً في العالم، هم ضحايا استغلال الشّركات الرأسمالية، وذلك يظهر بشكلٍ فاضح في شركات النسيج. فشركة h&m مثلاً، التي تعطي العامل البنغالي دولاراً ونصف مقابل ١٨ ساعة عمل، تشكّل في الوقت عينه مركز تدمير البيئة الأهم في بنغلادش.
الواقعُ من حولِنا هو خيرُ شاهدٍ
فلنضربْ هنا مثالاً راهناً وبسيطاً: بعد تفاقمِ أزمة كورونا في الولايات المتحدة وانخفاض الطّلب بشكل عامٍ، وبينما تعيشُ آلافُ العائلاتِ في الحاجة والعوز، قامتْ بعضُ الولاياتِ بالتخلّص من الحليبِ '' الفائض'' بحجّة الحفاظ على عمليّةِ استقرار العرض والطّلب. ويتمُّ التخلّصُ من هذا الحليبِ بطرقٍ شتّى، في حينِ يحذّرُ العلماءُ من المخاطرِ البيئيّة له؛ إن على التّربة أو على الأسماك بعد رميه بالمجاري، الخ. فهل هذا عملٌ فرديٌّ أو طريقةُ التّفاعل بين الرأسمالية والطبيعة؟ في بلدنا لبنان أيضاً قضيّةٌ بيئيّة راهنة وهي قضيّةُ تدمير مرج بسري بحجّة إنشاء سد. بيد أن الصفقة قد فشلت وانتصرت قضية إنقاذ المرج، إنما ومنذ فترة وجيزة وبينما أجمع العلماء والخبراء على أضرارِ هذا السدِّ البيئية وفشله المحتّم بتأمينِ الفوائد المتوقّعة منهُ، وبينما في الوقت ذاته واجه المشروع رفضاً شعبيّاً، استمر البحث في الصّفقة بدافعٍ وحيدٍ لا غبارَ عليه: مليار ومئتي مليونٍ من العملةِ الصّعبة، وهو مموّلٌ من البنك الدوليّ، أي من جيوب فقراء اللبنانيين.
كلمتان أخيرتان
إنّ مفهومَ العمل المغتربِ هو سمةٌ من السّمات الأساسية في عمليّة الانتاج الحاليّة؛ حيثُ ينسلخُ العاملُ في عمله عن نفسه وعن ما ينتجُ كما ينسلخُ عن النّاس أيضاً. إنّما الجديرُ بالذّكر هو الاغترابُ عن الطّبيعة نفسها والابتعاد عنها كسببٍ أساسيّ للاغتراب وللمشاكل النفسيّةِ والمعنوية للبشر. فالابتعادُ عن الطّبيعة أبعدَ الناسَ عن أنفسهم. وليس من المستغربِ في الوضع الحالي اللّجوءُ المتزايد الى الأرض والطّبيعة بينما تقفُ عجلةُ الانتاجِ الاجتماعي. وإنّما، وبناءً على كلِّ ما سبق، فإنّ هذا اللجوءَ لن يكونَ مستداماً في حال لم يتخلّصِ النّاسُ من نمط علاقاتٍ مصاغة بشكلٍ دائم مع الطّبيعة واستبدالها بعلاقاتٍ أخرى تنظّمُ عملية الانتاج بالتّوافق مع الحاجة البشرية. إنَّ هذه العلاقاتِ البديلة هي قاربُ نجاتنا الوحيدُ في مواجهةِ خطر دمارِ الحياة على الكوكب، وهذه الاخيرةُ تتلّخصُ بكلمتين: الاشتراكية أو الانقراض.