كلّ هذه الكلمات تلتقي وتتجمّع في كلمة واحدة هي "الحرية". نحن "الفلسطينيين"، آخر شعب في العالم يعاني من الاحتلال ويريد أن يتحرّر، أن يعيش مثل كلّ البشر بكرامة وأمان، وألا يكون مضطّراً للخوف على أطفاله، وأن يكون مطمئناً أن اليوم التالي سيأتي، ويعيشه بلا رصاص. هنا شعب يطالب بحقّه في وطنه الذي تمّ الاستيلاء عليه. وألا تستمرَّ جرائم الحرب ضدّه دون محاسبة. هنا شعب يتظاهر ويثور لا لأنه يحبّ الموت، بل لأنه يحب الحياة، ويريد أن تكون الحياة هي الإرث الذي يتركه لأولاده وحفدته.
كيف يرى فلسطينيو الشتات مطالبة مواطنيهم في القدس بحق الوجود؟
الفلسطينيون في القدس لا يدافعون عن أنفسهم ومدنهم وحسب، بل يدافعون عن قيم الحرية والعدالة التي دافع الفلسطينيون في الشتات، ودافع عنها الناس في جنوب إفريقيا، ودافعت عنها أوروبا في الحرب العالمية الثانية، ويدافع عنها أصحاب الضمائر في كلّ مكان. في أوّل حوار صحفي معي، وكنت شاباً، قبل عامٍ.. قلتُ: نحن نقف مع فلسطين، لا لأنّنا فلسطينيون أو عرب، نقف معها لأنها امتحان يوميّ لضمير العالم. وهذا ما يفعله الآن الفلسطينيون في الشتات، ويفعله أنصار العدالة والكرامة الإنسانية في كلّ مكان؛ وهم يرفعون أصواتهم ضدّ الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضدّ الفلسطينيين. الأسبوع الماضي فقط هدم الإسرائيليون ودمّروا مئات المنازل الفلسطينية.. وقتلوا أكثر من 60 إنساناً، وجرحوا أكثر من 1200 آخرين.
في روايتك: "مجرّد اثنان فقط"، معارك، ومجازر ومصادرات تختلط في سيل وعي. ماذا يجب أن يحصل في ليالي الفلسطينيين حتى يبزغَ عليهم فجر السلام..؟
اليوم ودائماً، لم يحلم الفلسطيني بشيء مثلما حلم بأن يكون آمناً ومطمئناً حين يضع رأسه على مخدته لينام، لقد تعبنا من المجازر والكوابيس، وبعضنا ولِدَ وعاش ومات، وهو محاصر بهذه الكوابيس وبهذا القتل. نحن نريد أن نحلم بأشياء جميلة، بمستقبل، بأطفال يكبرون بصورة عادية، نحلم أن نربّي أطفالنا دون قلق، ونزرع أشجارنا دون قلق، حتى الأشجار لا تنجو من القوات الإسرائيلية، ملايين الأشجار تمّ قطعها أو حرقها. وهذا ما فعلوه في قرية "بورين" قرب مدينة نابلس منذ أسبوع، لقد حرق المستوطنون مزارع القرية وبساتينها وأشجار الزيتون وبقية الأشجار المثمرة. هنا احتلال يعتبر، حتى، الأشجار أعداءً له، ولذلك يقتلعها ويحرقها.
الأخبار العالمية تجاهلت مأدبة الإفطار الجماعي والتصوير بالهواتف التي كانت تطلب حق الوجود في القدس. والان يدينون ولن يتجاهلوا طرق مقاومة أخرى. هل نحن متورطون في عدم الإعتراف بحقّ الوجود الفلسطيني؟
منذ ثلاث وسبعين عاماً يطالب الفلسطيني البشر في كلّ مكان أن يفهموا قضيته، وأن يروا الفلسطيني نفسه، لاجئاً خارج وطنه وسجيناً في داخل الوطن، ومضطَّهداً تٌمارس عليه كلّ أشكال القتل والتطهير العرقي، وكلّ أشكال العنصرية. لست أنا من يقول هذا فقط؛ كلّ المنظمات الدولية تقول ذلك: منظمة العفو الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وقرارات الأمم المتحدة، والأمم المتحدة نفسها، لكن هناك من يُغلقون أعينهم، هناك من لا يريد الإعتراف بمأساة هذا الشعب الذي يدافع عن وطنه منذ أكثر من مائة عام. الجرائم الإسرائيلية في كلّ مكان، وفي القدس هناك جرائم كبيرة ضدّ كنيسة القيامة، وضدّ المسجد الأقصى، ضدّ المسيحيين والمسلمين، وقد كتبت رواية اسمها "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" عمّا فعله الإسرائيليون ضد المسيحيين في مدينة "بيت ساحور" ومدينة "بيت لحم"، لقد قتلوا الناس في هاتين المدينتين وصادروا أموالهم التي في البنوك، وصادروا خواتم زفافهم وحليّ النساء الذهبية، وقتلوا الحيوانات التي تعطي الحليب الضروري للأطفال الفلسطينيين. رغم ذلك كلّه يصرّ البعض على ألا يرى هذه الجرائم، والفلسطيني تعِبَ من هذا، تعِبَ من عمى الضمير الذي يمارسه الإعلام الغربي بشكل واسع وكذلك السياسيون، ولذا يثور الفلسطيني مرة بعد أخرى ليعش الحرية التي يعيشها البشر في كلّ مكان.
منذ سنتين سألت مروان جعبه صاحب المكتبة الوحيدة في رام الله، من هم الكتّاب الفلسطينيون على قيد الحياة الأكثر شهرة فأجابني حين قال: أنتَ. أدبك وشعرك هم يوحّدوا ويرسّخوا الوجود الوطني الفلسطيني، هل أنت تقوم بهذا العمل عن قصد أو بشكلٍ عفوي؟
الكتابة لدي مشروع حياة، بل مشروع وجود، حين أكتب، ويكتب الفلسطينيون، فنحن نريد أن نقول إننا موجودون، إننا لم نمت، إننا لا نستطيع أن نموت. لكن الكتابة أيضاً هي مشروع جمالي، نريد أن نساهم في تطوّر الأدب أيضاً، ونريد أن نقدِّم للعالم شيئاً جميلاً، كما يقدّم لنا العالم شيئاً جميلاً، كما قدّمت لنا إيطاليا دينو بوتزاتي وبرانديللو وإليساندرو باريكو، نريد أن نقدّم للعام شيئاً جميلاً، وحين يقرأ الناس أعمالنا في أيّ مكان على سطح الكرة الأرضية نريد أن يستمتع بها هؤلاء الناس ويحبّونها، لا لأنهم متعاطفون معنا وحسب، بل لأنها كتب جيدة وجميلة. بالنسبة لي، سعيدٌ أن كتبي مقروءة في فلسطين بشكل واسع جدًاً، وسعيد لأن الفئة الكبرى من قرائي هم من الشباب، في فلسطين وخارجها، وسعيد لأنني أُصنَّف من أكثر الكتّاب العرب تأثيراً وانتشاراً. هذا يجعلني أحسّ أن عملي المخلص للكتابة، المستمر من أكثر 45 عاماً، لم يذهب سدىً، وأن كتبي تؤثّر وتعطي الناس الأمل وحبَّ الحياة.
تعريف بالكاتب:
ولد ابراهيم نصر الله في عام ١٩٥٤ من والدين فلسطينيين هاجروا من اراضيهم في عام ١٩٤٨. لديه ١٤ ديوان شعري و٢٢ رواية من ضمنها سلسلة الروائي "الملهاة الفلسطينية" التي تغطي أكثر من ٢٥٠ عاما من التاريخ الفلسطيني الحديث. روايته "براري الحمى” رشحت من الغارديان البريطانية واحدة من اهم ١٠ روايات في العالم العربي. حصل على الجائزة العالمية ٢٠١٨ للرواية العربية بروايته "حرب الكلب الثانية". في عام ٢٠٢٠ أصبح أول كاتب عربي يحصل للمرة الثانية على جائزة كتارا بكتاب "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد". ترجم ٤ روايات باللغة الإيطالية ومن ضمنهم "مجرد ٢ فقط". نعتبر أن ابراهيم نصر الله الأديب الفلسطيني الحي الذي ينال اهتمام الكون لأن اعماله موجهة الي القراء العرب والأجانب.
ملاحظة أولى: وجهّت الأسئلة اليه عندما بدأت المواجهات في القدس ولكن قبل أن تبدأ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة.
ملاحظة ثانية: المقال مأخوذ عن موقع https://pagineesteri.it/