بين المدرسة الرحبانية وظاهرة زياد الرحباني: تكامل ام تناقض؟

إن دراسة المسيرة الفنية المهنية للفنان الكبير زياد الرحباني لغاية تاريخه تثبت بما لا يقبل الشك أنه لم يسع يوماً للتكامل مع المدرسة الرحبانية من كلّ النواحي: أكان في كلمات وألحان الأغاني، المسرحيات، الحضور، التعاطي مع الناس، العفوية.

كان من الأسهل جداً للفنان زياد الرحباني تكملة الطريق والبحث في الجوارير العتيقة كما فعل غيره عن لحن من هنا أو كلمات أغنية من هناك أو نص مسرحي.

ولكن زياد الرحباني اختار منذ البداية الطريق الفنية الأصعب التي تقوم على مبدأ واحد وأوحد: تحليل ونقض كلّ شيء من حوله. لم يبق شيء على حاله. بينما مسرحيات الأخوين الرحباني كانت تركز على التراث وأخبار الضيعة والبطولة وتاريخ لبنان الجميل القوي الصامد.. أختار زياد الرحباني الواقعية في مسرحه وأغانيه إلى أبعد حدود. أنتقد الدولة والنظام والشعب والطوائف والأحزاب. طالب بالثورة والتغيير والانتفاضة على الواقع السيء الذي قسم البلد الى فقراء وأغنياء. أعطى رأيه بصراحة من دون مواربة أو تزلف.

في الواقع زياد الرحباني لم ينتقد مدرسة الأخوين الرحباني لمجرّد الانتقاد وأنما لتوجيه اللوم إلى المدرسة الرحبانية التي نقلت الشعب اللبناني إلى دولة سمّيت "الزمن الجميل" بينما هي بالحقيقة وبنظره دولة الأوهام التي ما لبثت أن سقطت بشكلٍ مدوّي عند أول اختبار دموي في العام 1975. إذ يظهر هذا النقد جلياً خلال البرنامج الإذاعي "العقل زينة" الذي كان يبث على صوت الشعب في ثمانينيات القرن الماضي، إذ يقول زياد الرحباني ما نفع هالة والملك وفخر الدين وغيرهم من أبطال. 

المسرحيات في ظل الحرب القائمة.

ما يميّز مسرح زياد أنه ابتعد عن الرتابة في تحديد أبطال مسرحياته: لا يمكن لأيّ مشاهدٍ لأيٍّ من المسرحيات أن يحدّد من هو بطل أو بطلة العمل. نبدأ من مسرحية "سهرية" التي تتحدث عن صراع بين جيلين دون أن تعطي الدور الرئيسي لممثل أو ممثلة. ما يقتضي الإشارة إليه هو أنه على عكس مسرح الرحباني، إختار زياد الممثلين من الهواة وليس من المتخصّصين بالفنون المسرحية، إذ قسم كبير من الممثلين في مسرحية "سهرية" هم من أبناء بلدة جل الديب المتنية، وليسوا من خريجي كلية الفنون الجميلة.

 

أما مع مسرحية "نزل السرور" في العام 1974، إنتقل زياد الرحباني إلى النقد اللاذع لنظام الحكم القائم حينها، وكان يرى أن الحل الوحيد حينها للتغيير هو الثورة والتمرّد على الواقع. إذ إن نقد المسرح الرحباني وصل إلى حدود التغيير في طريقة الأداء للممثلين وطريقة الرقص واللبس ومضمون الأغاني والحانها. إذ أنه كتب ولحّن أغانٍ للثورة والجوع والفقر، وخرج من عالم الحاكم المتسلّط والشعب. لم يستخدم زياد أحداثاً تاريخية لصناعة مسرحه، بل إستخدم أحداثاً واقعية فعلية حديثة تعايش معها الناس. إذ أن مسرحية "نزل السرور" مرتبطة بأحداث السرقة الشهيرة لـ "بنك أوف أميركا". بينما الأخوين رحباني فضّلوا التاريخ، وبلوروا الأحداث التاريخية كما حصل في مسرحية "صيف 840"، المبنية على أحداث ذاك العام وعامية أنطلياس الشهيرة. أكثر من ذلك، فضّلوا صناعة المسرح السهل والمفهوم ومن عموم الناس، عوضاً عن المسرح الغنائي المتضمّن شبكة مسرحية معقّدة.

والأجمل بمسرحيات زياد أنها موجّهة لكلّ الناس دون إعتبار للعمر أو الجنس أو اللون أو مستوى الذكاء أو الطائفة.

دخلت أعماله كما أُحبّ أن أسميها في فئة الأعمال المسرحية الخالدة. وأعني بذلك أنها كُتبت بأسلوب ومنهجية تضعها خارج الجغرافيا والتاريخ. وهذا ما بدا واضحاً عند عرض مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" بعد أربعين عاماً أو أكثر على عرضها في العام 1978، إذ تهافتت الجماهير لترى عملاً من أعمال زياد، ولو بعد زمن طويل.

إن التناقض بين زياد والمدرسة الرحبانية وصل إلى التناقض التام بالشخصية والحضور بينه وبين والده الفنان العبقري الراحل عاصي الرحباني. بينما عاصي الرحباني يفضل الابتعاد كلياً عن الأضواء أو حتى الظهور أو إجراء المقابلات، أو إعطاء رأيه الشخصي بموضوع معين، ظهر زياد للجمهور كشخصية إستثنائية، يتشوّق الجمهور لسماعها أو مشاهدتها.

لم يعرف الجمهور يوماً شيئاً عن شخصية عاصي أو منصور الرحباني سوى إنكبابهما على العمل لإنتاج مسرحيات وأغانٍ وطنية فولكلورية، وليس نظرتهم إلى المرأة أو السلطة أو حتى توجّهاتهما السياسية.

بينما قصد زياد منذ بداية حياته المهنية إظهار وبشكلٍ "وقح" توجّهه السياسي نحو اليسار اللبناني، وليس إلى الأحزاب اليمينية. وهذا بالتحديد ما حوّله من مجرّد مخرج أو ممثل أو كاتبٍ لنصٍّ مسرحي، إلى شخص مميّز يترك أثراً في حضوره، بعيداً عن الأحاديث المعلّبة الروتينية عن الأعمال الجديدة أو الأغنيات الجديدة.

بينما بحثت ودرست المدرسة الرحبانية التاريخ جيداً ونقلته إلى المسرح الغنائي، فضّل زياد النظر إلى الأمام، إلى المستقبل، وهذا ما ترجمه في مسرحية "بالنسبة لبكرا شو"، إذ أنه في تلك المرحلة من تاريخ لبنان كان الأفق مسدوداً، وكان المطلوب من الجميع التفكير سوياً بمستقبل البلد والناس، وليس البكاء على الأطلال وعلى أمجاد وهمية تبعثرت الى أشلاء. تحدث زياد، وعلى عكس المدرسة الرحبانية، عن الفقر من خلال شخصيات بسيطة. تحدث بشكل فاقع عن العلاقة بين الرجل الضعيف الشخصية وزوجته، وسبل العيش في لبنان، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بـ "كرامة" الزوجة. تحدث عن المدرسة الرسمية والمستوى التعليمي المتدني الذي تقدّمه للتلاميذ. تحدث عن البورجوزاية اللبنانية، وأظهر غبائها وإبتعادها عن الواقع المرّ. تحدث عن أصحاب العمل وإستغلالهم للمستخدمين من دون إعطائهم حقوقهم المادية الكافية.

بينما في المسرح الرحباني ليس هناك مكان للضعفاء. هناك دائماً بطل أسطوري، يُحارب الأعداء ويتكلم منفرداً باسم الشعب المظلوم ويدافع عنه في وجه الأعداء مهما عظموا.

الملاحظ في مسرح زياد الرحباني أنه لم يعطِ أيّ دورٍ محوري للمرأة، وذلك على عكس مسرح الأخوين رحباني. إذ كلّ مسرحيات وحتى أفلام الأخوين الرحباني ركّزت على دور محوري للمرأة، مثل مسرحية لولو أو زيون في مسرحية ميس الريم وغيرها.

بمعنى آخر، ألغى زياد الرحباني من مسرحياته المبدأ التقليدي التي تقوم عليه المسرحيات، أي الأبطال والكومبارس. إذ في مسرحياته كلّ ممثل هو بطل، هو شريك في العمل، بينما في المسرح الرحباني التركيز كان دائماً على إعطاء دور البطولة لعدد من الممثلين، أما باقي الممثلين فكانت أدوارهم ثانوية وغير محورية.

أكثر من ذلك، فإن جميع الشخصيات المسرحية في مسرح زياد الرحباني إنطبعت في ذهن الناس: من يمكن أن ينسى شخصية "زكريا" في "نزل السرور" و"بالنسبة لبكرا شو"، أو شخصية "رشيد" في مسرحية "فيلم أميركي طويل" واللائحة تطول.

بينما لم يبقَ في ذهن الجمهور من المسرح الرحباني سوى أسماء الأبطال الأساسيين، مثل "سيف البحر" في "صيف 840" أو "زيون" في "ميس الريم".

لم يبحث زياد الرحباني يوماً عن جمهور لمسرحه، بل على العكس، كان الجمهور، ولا يزال، يبحث عن إعلان يتضمّن مسرحية أو أغنية لزياد الرحباني.

بينما المدرسة الرحبانية حاولت من خلال أعمالها المسرحية إستقطاب أكبر شريحة من الجمهور من خلال المسرح الغنائي التقليدي المتضمّن ما يريده الجمهور، أي الدبكة، والأغاني الجبلية، واللباس التقليدي.

يتبلور طوق زياد الرحباني إلى الخروج من الماضي والتراث من خلال مسرحية "شي فاشل"، في الحوار الشهير بين "أبو الزلف" و"الاستاذ نور"، المخرج المفترض للعمل المسرحي. إذ أن الرحباني ينتقد بشكلٍ لاذع التراث اللبناني ويعتبر أنه بات خارج الزمن الراهن، وبحاجة إلى تطوير وتغيير جذري، بدل التمسّك به كما هو بشكل جامد معلب. إذ ينتقد الشروال اللبناني التقليدي والدبكة والحمص، كما ينتقد الأغاني التراثية المحصورة بالحبّ والأغاني الفلكولورية.

بالمختصر، لم يكن يريد زياد شيئاً من أحد، حتى من المدرسة الرحبانية. لم يكن يريد أن يربط نجاحه الفني والجماهيري بكونه إبن عاصي الرحباني والسيدة فيروز. لم يبحث زياد يوماً عن ألقاب يرتبط إسمه بها مثل غيره. يكفي لفظ إسمه من المحيط إلى الخليج لمعرفة من هو وما قدّمه للمسرح وللفن اللبناني.

كما ذكرنا، لم يعرف الجمهور أي شيء عن شخصية عاصي أو منصور الرحباني. بينما شخصية زياد الرحباني إنطبعت في عقول وقلوب الملايين من محبّيه، الذين يعتبرونه مثالاً أعلى، وما قاله ويقوله ينطبع في ذاكرتهم ويردّدونه في مجالسهم.

حتى العديد منهم يحاول تقليده من خلال إستخدام أسلوبه في الكلام أو الحضور. وهذا بحدّ ذاته يظهر فرادة شخصيته وإبتعادها كلياً وتناقضها مع شخصية والده وعمه منصور.

حتى التناقض أو التغيير وصل إلى مقدّمات المسرحيات التي قدّمها زياد. إذ أنه دائماً ما تبدأ المسرحيات بمقطوعة موسيقية طويلة نسبياً، استخدمها زياد لتعريف الجمهور على نوع جديد من الموسيقى قبل بدء العرض المسرحي المنتظر.

حتى كلمات الأغاني المستخدمة في المسرحيات كانت مختلفة، تظهر وكأنها مبعثرة أو غير متناسقة مثل أغنية "إسمع يا رضا" التي يذكر فيها كلمة الخسة يللي زارعها بايدي، وهذا الأسلوب لم نجده في مسرح الرحابنة، الذي عمل جاهداً ونجح في تقديم الأغنية بقالب معين دون السماح بأي تغيير للنهج التقليدي المتبع.

ترك زياد الرحباني جمهوره في حالة من الحيرة الدائمة أثناء وبعد مشاهدته للعمل المسرحي. إذ البعض يعتبر مسرحياته هزلية تخفّف من التعب والضغط النفسي، وخاصة في ظلّ الحرب الأهلية المشؤومة. بينما البعض الآخر يعتبرها تحمل سخرية، والبعض يعتبرها تحمل رسالة أو رسائل معينة.

زياد، وعلى عكس المدرسة الرحبانية، لم يكن يريد استخدام أسلوب أو نص يرضي به كلّ الجمهور، بل كان يبحث عن شريحة مستعدة لتحليل والتعبير والكلمات وتركّز على كلّ حرف أو جملة في المسرحية. كان من السهل جداً لزياد اعتماد الأسلوب المسرحي التقليدي الإنشائي، حيث يتلو كلُّ ممثل دوره المسرحي، دون إنتظار أي ردة فعل من الجمهور أو حركة ما.

ينطبق الأمر عينه على إختياره للممثلين على مسرحه. إذ أنه لم يختَر من هو الأفضل أو من هو الأجمل على الساحة الفنية، بل إختار من يشبهه، أو بالأحرى من يفهم أسلوبه النقدي في المسرح. فلنعطِ مثلاً، أعضاء مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" كانوا جميعاً من الجيل الجديد، وليس الجيل التقليدي المخضرم والمعروف من الجمهور. وهذا لم يبرز لدى المدرسة الرحبانية، التي فضلت الإعتماد على فريق عمل معين وعدم المغامرة في الإعتماد على ممثلين جدد. إذ أن الفنان الكبير الراحل نصري شمس الدين عمل كبطل في معظم مسرحيات وأعمال المدرسة الرحبانية، وكذلك السيدة فيروز وغيرهم من الممثلين أمثال الكبير وليم حسواني وانطوان كرباج.

صحيح أن زياد إعتمد في مسرحه على أداء الأغاني، ولكن لم يحصره ببطل معين أو بطلة، بل فضل تقديم فرصة لأي ممثل أن يقوم بالاداء كما هي الحال في مسرحية "بالنسبة لبكرا شو"، حيث يقوم بالأداء الممثل الراحل جوزف صقر رغم أنه ليس بطل العمل المسرحي.

حدود التناقض بين المدرسة الرحبانية وظاهرة زياد الرحباني وصلت إلى الشخصيات التي تبرز على المسرح، والتي هي أقرب إلى حياتنا اليومية. من يمكن أن ينسى شخصية "ادوار" في "فيلم اميركي طويل"، أو "ابو ليلى" و"عمر". كلّ هذه الشخصيات ما زالت موجودة، وليست من نسج خيال أو الأحلام. حتى أن أسماء الشخصيات تُظهر الابتعاد الكلّي عن أي شيء يشبه المدرسة الرحبانية. بينما نرى شخصية "زيون" و"عطر الليلة" و"نجمة" و"عبلة"... نرى في مسرحه ثورياً و"رشيد" و"ادوار" و"زافين" و"تينو"... بمعنى آخر، أنسن زياد الممثل والشخصية، وكسر الحاجز بينها وبين الجمهور، وهذا ما يخالف تماماً المدرسة الرحبانية، خاصةً مثلاً في شخصية "سيف البحر" التاريخية، التي يعتقد البعض أنه بحسب المسرحية لا يهزم أو ينكسر أو يستسلم.

التناقض وصل حتى إلى حدود المناطق والبلدات المستخدمة في أسمائها في المسرحيات والافلام. بينما فضلت المدرسة الرحبانية إختيار أسماء وهمية خيالية، وذلك خوفاً من خسارة قسم من الجمهور أو إزعاجه، فضل زياد الواقعية كما ذكرنا من خلال حديثه عن بلدات مثل الغبيري والدورة والاوزاعي وكفرنبرخ....

التناقض يتتابع حتى في الموضوع الطائفي، فقد فضلت المدرسة الرحبانية الابتعاد كلّ البعد عن أي شيء أو مشهد أو مسرحية تتضمّن أي شيء يتعلّق بالطوائف في لبنان. أما زياد فقد قام بعكس ذلك تماماً، إذ تحدّث، وبشكل وقح أحياناً، عن الطوائف في لبنان والصراع بينها، لأنه كان واثقاً بأن الجمهور سيفهم ما الذي يقصده بالتحديد. إذ أن زياد وصل إلى حدود الوقاحة وتوقف ولم يصل إلى التجريح بأي طائفة أو إهانة معتقداتها، وهذا الشيء تكرّس أيضاً في أغانيه وأبرزها أغنية "أنا مش كافر".

على عكس الشخصيات البارزة في مسرح الرحبانة، لم يهتم زياد يوماً بشكله أو شكل الممثلين الخارجي. إذ أنه أظهر نفسه بالتحديد في معظم مسرحياته بلباس عادي، يعكس الشخصية أكانت شخصية "زكريا" أو "رشيد" أو "الأستاذ نور". بمعنى آخر، لم يهتم بتسويق نفسه بأفضل ما لديه لكسب ثقة الجمهور. بل إعتبر أن الجمهور يبحث عن الكلمات والعبارات وليس عن الشكل الخارجي. وهذا ما لم تطبقه المدرسة الرحبانية، التي فضلت إظهار البطل في أفضل ثياب وأفضل مظهر أمام الجمهور طوال العمل المسرحي.

لم يضع زياد الرحباني حدوداً وخطوطاً حمراء أو صفراء أو زرقاء في مسرحياته. كان يقول ما يقوله دون ما تردّد وبكلّ عفوية وجرأة. إذ أنه من أرباب المسرح الرائد في ذكر الأمور الجنسية وعلى العلن أمام الجمهور، خاصة في مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" ومسرحية "شي فاشل"، فقد إستخدم بطريقة ذكية الأمور الجنسية لتوجيه نقد لاذع للمسرح الرحباني التقليدي المتمسك بالتقاليد والتعابير المدروسة، ولكن البعيدة عن الواقع الملموس.

تبقى الإشارة الى أن ثورة زياد الرحباني على المسرح الرحباني لم تأتِ من عدم، بل بعد خوضه تجربة التمثيل في المسرحيات الرحبانية. ربما فهم حينها نمط العمل والتفكير وطريقة إدارة المسرحية، فقرّر الخروج تماماً من هذه الصيغة والبحث عن صيغة جديدة تشبهه لا يكون فيها مجرّد كاتب أو مخرج أكمل طريق كان بدأ بها الأخوين رحباني.

المدرسة الرحبانية وضعت حاجزاً كبيراً بينها وبين جمهورها، فقد فضلت أن يعرف الجمهور الممثلين فقط من خلال المسرحية ولا شيء آخر عن حياتهم الشخصية، أي لم تسمح الاختلاط بين الجمهور والممثلين. حتى أن الأخوين رحباني أنفسهم كانوا يفضلون عدم الاختلاط بالجمهور أو التواصل معه إلّا من خلال المسرح. بينما فعل زياد العكس تمام. إذ كان يعتبر نفسه جزءاً من الجمهور ولا يسمح لعمله الفني أن يضعه في مرتبة أو في مكان بعيد عن جمهوره كونه إبن فيروز وعاصي الرحباني. جاء إبداع زياد من إختلاطه بالجمهور ليعرف جيداً ما الذي يريده وما يعانيه من تحديات حياتية ومعيشية وإجتماعية. كلّ شخصياته آتية من البيئة التي عاش فيها، وليس من نسج الخيال، بيئة تتضمّن طباخاً وبائع خضار ومدير مطعم ونادل.

كان يعتبر زياد أنه لا بدّ من مواجهة الواقع وقول الأمور كما هي دون مواربة أو تجميل. أما المدرسة الرحبانية ففضلت الهروب من الواقع إلى واقع آخر يجعل الجمهور يعيش حالة حنين أو شوقاً الى زمن ليس في الواقع .. لم يكن موجوداً يوماً.

التناقض وصل إلى المقابلات الإذاعية والتلفزيونية. خلال متابعة إحدى المقابلات القديمة مع عاصي وفيروز، نرى حالة من الخوف والتردّد في الإجابة، نوعاُ من الهيبة والاختصار في الإجابة. إذ أن كلّ الأسئلة معلّبة ومركّبة والأجوبة كذلك ومحصورة في الإطار الفني الضيّق المرتبط بالعمل الفني المزمع تقديمه للجمهور وليس أكثر. بينما زياد، وكونه ظاهرة، جعل الجمهور يتابع مقابلاته بشوق لمعرفة ما يريد قوله عن أي شيء وليس الفن فقط. إذ يمكن أن يتحدث عن طفولته أو زوجته أو سنّ المراهقة... بمعنى آخر إبتعد عن الأجوبة التقليدية المعلّبة الروتينية المبتذلة.

يبقى القول أن التناقض الذي تحدّثنا عنه كان مصدر غنى للمسرح والموسيقى اللبنانية، وليس مصدر ضعف وهذا ما يميز لبنان عن غيره من البلدان.