الطلّاب بين فكيّ العجز والفراغ...اهلا بالاكتئاب

لقد أمضوا الكثير من الوقت يحدثوننا عن الانفاق ونهايتها. وأنا لا أقول هذا لأخبركم ان في نهاية النفق ضوء أو حياة جديدة، ليتني أفعل، انما لالفت نظركم الى حقيقة أننا ولدنا وعشنا في النفق المظلم هذا، وأمضينا اعمارنا نركض علّنا نلمح النهاية. ليتني أقل سواداً في حديثي هذا، انّما أي واقع لدينا لنلمّع الكلمات؟ أين بداية النفق لنعرف نهايته؟ إن الظلام يشتد، لقد علّمونا أن لا نرى، انهم يحاولون أن ينسونا كيف نتكلم، كيف نكتب، كيف نكون بشراً. لقد احتفلنا ببداية هذا العام دون ان نعلم أننا سنرجع مئة عام الى الوراء، حرفياً. 

 

تصلح هذه المقدمة الكئيبة لأي موضوع في الجريدة، لأي نشرة اخبارية، في اي وقت من اليوم. لكنني عنيتُ الظلام بحرفيته، والظلام الحقيقي لا يليق الا بموضوع التجهيل وتغييب وعي الشعوب وثقافتها، ان الظلام لا يحل على أمة لا تزال قادرة على الكلام، على الكتابة عن النظام وما يفعل وما يقتل، بمعنى اخر ان الظلام لا يحل على أمة ما زالت قادرة على الانتاج الفكري والعلمي والثقافي الذين يحولون ولو بعد حين وبالادوات المناسبة الى ثورة فعلية وعملية تقلب الموازين.

إن النظام يحاول وبشكل ممنهج الى حصر العلم والقدرة على التعلم بيد القلة القليلة من الشعب، بيد أولئك الذين يمتلكون الأموال القادرة على شراء الامتيازات كالبطاطا. نحن لا نبالغ اذا قلنا أن بعد بالكثير لن يتمكن أكثر من نصف الطلاب من دخول الجامعات والمعاهد. ولمَ سنة؟ نحن لا نعلم عن العام الدراسي هذا! فالجامعة اللبنانية مثلاً انذرت طلابها أن لا عام دراسي هذه السنة، وقبل أن يخرج أحدهم ليكذّب الخبر وينشر عكسه، فإن كل الاخبار تقول ان الاف الطلاب هذا العام ستجلس في بيوتها بلا كهرباء ولا ماء ولا انترنت ولا مستقبل. ونحن ننتظر بالمناسبة خروج أحد جهابذة السلطة ليقترح عليهم التوجه الى الجامعات الخاصة. تلك التي لن يتمكن طلابها هي الاخرة من الحضور الى صفوفها او حتى التسجيل فيها أصلاً. تلك الجامعات التي ما إن ظهر رأس الازمة حتى راحت تجلد بطلابها ضاربة بعرض الحائط العدد الكبير من طلابها الذين يسعون ليلاً ونهارااً لتسديد أقساطها. تلك الجامعات التي لا يهمها الا المحافظة على هامش الربح الكبير. فبعضها يتجه الى دولرة الاقساط، وبعضها لا يقبل الشيكات المصرفية، وبعضها الآخر لا يقبل حتى القسط بالليرة اللبنانية حتى ولو على سعر صرف السوق. الجامعات التي تعرف ان لها "زبائن" محددة واصبحت اليوم واضحة بأنها شركات تجارية لا تشبه المؤسسات التربوية والتعليمية بأي شيء.

 

ما زلنا في أول الغيث، لا زلنا في الحديث عن الاقساط. لنفترض أن الاقساط كانت لتكون "أهون"، الطلاب لن يتمكنوا من الوصول الى صفوفهم للمتابعة. طبعاً وقبل كل شيء، هذا اذا سلمنا جدلاً بأن الجامعات ستفتح أبوابها أصلاً، فالجامعة اللبنانية ليست الوحيدة المهددة باقفال أبوابها هذا العام الجديد، بل الكثير من الجامعات الخاصة انذرت طلابها أن لا فصل جديد مبدئياً. فلا مازوت في الجامعات ولا كهرباء، ولا قدرة للطلاب على الوصول الى جامعاتهم فلا بنزين. انها متاهة لا تنتهي، تماماً مثل النفق في اول الحديث. أم ان النفق متاهة ومشكلتنا اننا نركض في خط جالس ونصطدم، لا أعلم. على أية حال، الطلاب في الرسمي والخاص يجلسون بلا أفق لحياتهم، ليس بإمكانهم التخطيط لمستقبل أبعد من يوم غد. ليس بإمكانهم التخطيط لوظيفة أو سفر لأن شهادتهم عالقة بيد الدولة اللبنانية المستعدة لدفع البلاد الى الاسوأ في أي لحظة قريبة. لقد "نزح" الكثير من طلاب الجامعات الخاصة الى الجامعة اللبنانية هرباً من ضيق العيش والظروف، فأقفلت الاخيرة ابوابها بوجههم ووجه طلابها وعلقوا جميعهم في الفراغ والضياع بين ٤ جدران، لا قدرة لهم على التسجيل في هذه ولا في تلك، وان تمكنوا من التسجيل فالعجز في الذهاب الى هذه وتلك سيد الموقف. 

 

أي حلول بديلة برأيكم ستقدمها سلطتنا العظيمة؟ أنا اعتقد ان احد عباقرة الحكومة المستقيلة او حتى المؤجلة قد يقترح السكن القريب من الجامعات، لأن المجمعات السكنية التي بنوها لنا كثيرة ومتوفرة بأسعار يا بلاش وآمنة والجميع قادر على الانتقال اليها خاصة الفقراء والنساء. أما النقل العام، اتمنى الا يقترح احدهم ركوب القطار، وألا ينسى أحدهم مشكلة الكهرباء فيعجب لعدم الذهاب الى خيار ال "اونلاين'. 

 

في حديث مع إحدى طالبات الجامعات الخاصة، تقول ساندرا أنها تفضل الهجرة والعمل "بأي أي شي" على ان تبقى في لبنان لتنهي الفصل الاخير من جامعتها، على ان تبقى في بلد اذا فتح لها باب الجامعة جعل الطريق اليها شبه مستحيل. "شو بضل أعمل؟ اذا كنت قادرة عبي بنزين بدي اوقف بطابور واذا وقفت بطابور بروحو عليي الصفوف وبعد الضهر عندي شغل لاقدر عبي بنزين، واذا بدي روح على شغلي وجامعتي بسيارتي بدي حط معاشي كلو بس بنزين، واذا نقل عام ما بكفيني معاشي اصلاً". هذه السطور القليلة كافية من ساندرا لتبرير خيار الهجرة ورمي ثلاث سنوات من الدراسة. هذه السطور وبضعة سطور اخرى تخبرنا ساندرا فيها عن اضطرارها لبيع سيارتها للتمكن من السفر والبدء من الصفر في الخارج كافية لشرح أي جهنم ارضية نعيش فيها نحن، اي فراغ يحيط في الشباب ويأكل من قلوبهم، أي موت بطيء يجلس على صدورنا نتمنى أحيانا لو يسرع قليلاً. 

 

ليس في البال حلول لاهداف قريبة او حتى بعيدة. ليس في البال كلمات تقال او مقالات تكتب للشباب تشجعهم على البقاء والتغيير، وهذا ليس نفس انهزامي أو تشجيع على الاستسلام، وليس مؤامرة على تفريغ البلاد من اهلها... إنما هو صرخة في وجه من يجب أن يحمل مشروعاً للتغير والانقلاب الجذري على كل قديم في هذه البلاد، هي مساءلة وليس للسلطة هذه المرة، فمن يزال يطالب ويسائل هذا الطاقم يُعطي شرعية للاجرام والمجرمين، هذه مساءلة للاحزاب البديلة ومناشدة لها... لقد اصبح المشهد مملّا يا رفاق.