حلمُ كمال البقاعي

"نحن نرتفع على رؤوس موتانا، أولئك الذين علقت أطراف سلالمهم بالنجوم، نرتفع صوب الشمس. إن موتانا الذين سقطوا قد دفنوا في الشمس".

ناظم حكمت

 

في عالمٍ موازٍ كنّا سنجلس مستعمين إلى روايات المقاومين وخطط "المعلّم". أمّا في الواقع فنحاول نبش بضعة تفاصيل من شاهدٍ هنا، ومشاركٍ هناك، بعد أن خطف الموتُ كمال البقاعي وأسرارَه.

يوم ظهر وجهنا السريُّ إلى العلن، قيل رحل المعلّم. فتحت صفحات نضال لمخطط عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول"، وفي مسيرته محطات نضالية وحزبية ووطنية. بين صور الشاب الوسيم، والرجل التعب خلال الأشهر الأخيرة قبل وفاته، سيرةُ رجل مقاوم، وحامل همّ شعبه وحزبه. ما هو شخصي لم ينفصل عن الاجتماعي وحكماً السياسي. خطّط وتابع وساهم بالتحرير، وانكبّ لاحقاً للنهوض بوطنه. 

صباح ذلك اليوم من أيلول 2016، خطف الموت نائب الأمين العام للحزب. الرجل الذي واجه مرض السرطان، وقف في جسده المتعب وبصوته، الذي حاول المرض إخفاءه، ليقول لرفاقه إن الوقت هو للعمل بهدف نهضة الحزب وتقدّمه. عاد إلى رفاق السلاح، زار عائلات الشهداء وأوصى بمتابعة التواصل معهم والاهتمام بأوضاعهم الاجتماعية والصحية والتنموية وتكريمهم وتنظيم العلاقة معهم، وأسس لجنة الشهداء والأسرى.

تجديد الحزب يبدأ بالتنظيم، بتنظيم الطلاب والعاملين والموظفين. أمل بالتغلغل في الدوائر الصغيرة، في المؤسسات، في الجامعات والمدارس، ودعا إلى الاستماع إلى مشاكلهم وبناء أرضية للتواصل معهم. فشدد البقاعي على تطوير التنظيم وتقدمه. 

واجه البقاعي النظام الطائفي كما الاحتلال الاسرائيلي، وكانت وصيّته تجميع الشيوعيين ووحدة الحزب. وبعد سنوات نضال طويل، انكفأ عن العمل الحزبي، لكنه بقي منتسباً للمؤتمر الحادي عشر، ولعب دوراً مهماً، داعياً إلى التجدّد بالحزب، فكان منزله مكان تواصل للكثير من الشيوعيين ليقفوا عند رأيه في موضوع المؤتمر، وكان بدوره يستمع إلى آراء الجميع.

يعود أمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب إلى فترة التعاون مع كمال عقب المؤتمر الحادي عشر. هو الذي نعاه في كلمة وصلت أصداؤها إلى جدران بيروت، حيث طبعت صورة كمال البقاعي مذيّلة بـ "وجهنا السريّ". يومها قال غريب: "ناضل في العلن كما في السرّ، وكان قائداً ومناضلاً وطنياً، حمل ثقة رفاقه جميعاً، فانتخبوه بالإجماع في المؤتمر وسمَّوه كما يحلو لهم بـ "المعلّم"، وقالوا فيه ما قالوه، وكان قليلاً من كثير". وصفه بالشيوعيّ الأمميّ الوفيّ لمبادئه في القول والممارسة.

يؤكّد غريب أن البقاعي أراد تجديد الحزب وتوحيده، ورفض أن يكون التجديد على حساب وحدة الحزب. نشط في هذا المؤتمر لأنه لم يطرح سابقاً التجديد. وخلال أعمال المؤتمر، كان الوحيد الذي طُرح اسمه وانتخب بإجماع الشيوعيين، وبإجماع اللجنة المركزية، انتخب أيضاً بالإجماع نائب الأمين، وذلك خلال توزيع المسؤوليات، تقديراً لتاريخه وعمله.

لم يغره المركز، بل شعر بالمسؤولية في منصبه، وقد طرح عدة نقاط للعمل، من توحيد وتجميع الكوادر الحزبية، كما تابع موضوع التنظيم ولجنة الشهداء والأسرى، وملف تاريخ الحزب والمقاومة. إذ إن تاريخ الحزب لم يكتب، وما كتب هو مذكرات، باستثناء كتاب محمد دكروب "جذور السنديانة الحمراء"، فكان البقاعي يعمل على تجميع وأرشفة تاريخ الحزب. بعد وفاته تحوّلت لجنة الشهداء إلى جمعية عمل بالشقّ الاجتماعي وساهمت في إعادة الإعمار بعد انفجار بيروت، كما ساعدت في مواجهة تفشّي فيروس كورونا، وقدّمت خدمات اجتماعية عدة.

 عارفو البقاعي يصفونه بأنه رجلٌ هادىء جداً، بالكاد يغضب، يستوعب كلّ مَن حوله. لم يتمتع بصورة العسكري الصارم، بل أحبّ الرقص والفرح والحياة. من قاتلوا وحرّروا، أرادوا تبديد الظلمات، أرادوا حياةً حرّةً وسعيدة. هو رجل واقعي وعلمي، لكن الواقعية تحتاج إلى بعض الحلم للتغلب على مصاعب لا قدرة لنا على التحكّم فيها. بعض هذه الأحلام تصبح واقعاً، تنتقل من عالم الأفكار إلى ما هو مادي وملموس، وما الضير في أن تشّع "فوق السقوف في كلّ ليلةٍ ولو نجمة واحدة"، كما يقول ماياكوفسكي؟ فهي ضرورية لأحدٍ ما. خرج كمال البقاعي من إبل السقي، وعاد إليها. أراد لبلدته مركزاً استشفائياً، فبدأ العمل على فرعٍ للنجدة الشعبية في البلدة. تحدّى تعبه وعمل بشكل يومي لتحقيق هذا الحلم. 

كان يريد بناء مستشفى" كمال البقاعي" للنجدة الشعبية في إبل السقي، وكان يتابع أثناء وجوده في العناية الفائقة عملية شراء الأرض، وآخر محادثاته كانت حول هذا الأمر، مع الأمين العام وأصحاب الأرض. يروي حسين كريم رحلة تأسيس النجدة في البلدة، الذي يعود إلى فترة الاحتلال. يومها أرادوا إعادة النجدة إلى منطقة الإنطلاق، خاصة في منطقة تربط مرجعيون وحاصبيا. فقط بدأت النجدة عام 1974، في المناطق الأمامية عبر مستوصفات في مركبا وكفركلا والطيبة وحولا وحاصبيا وإبل السقي والخيام، والتي تعطّلت بفعل الاجتياح الإسرائيلي لمنطقة الجنوب عام 1978.

قبل عام 2000 بوشر العمل على بناء مركز للنجدة الشعبية في إبل السقي، بالتعاون مع الاتحاد الاوروبي و"أطباء العالم". وضعت الخرائط لمبنى في مرجعيون، ولعب كمال البقاعي دوراً أساسياً في تنفيذ المشروع. عملوا على مناقصات عالمية، وحصلوا على الترخيص عام 2000. كان الهدف بناء صرح طبي بشكلٍ عام. لاحقاً، وقع الاختيار على منطقة إبل السقي، وانكب البقاعي على التواصل مع البلدية لإتمام صفقة شراء أرضٍ لإقامة المشروع عليها. هنا وقعت المشكلة، إذ إن الاحتلال كان اتّخذ من المنطقة أرضاً عسكرية وأمحى معالمها، فاكتشفوا لاحقاً أنهم بنوا على أرضٍ خاصة. ليدخلوا في عملية تفاوض مع أصحابها لشرائها.

تعمل إدارة النجدة اليوم على إطلاق حملة تبرعات بهدف إكمال المشروع، عبر إنشاء لجنة باسم "كمال البقاعي"، وعبر ويبسايت النجدة، إضافة إلى التعاون مع فاعليات المنطقة، كما يُعمل على تشكيل لجنة تأسيسية جديدة في إبل السقي.

في أيام مرضه، رافقه كريم في عمله اليومي لتحقيق مشروع النجدة، خلال تواصله مع المسّاجين، إلى حين إنجاز القضية. لم يمنعه مرضه من البقاء على اطلاع بأدقّ تفاصيل المشروع، وتعهّد له كريم على إكمال ما حلم به البقاعي. واليوم، يعملون وفق ما رواه لهم خلال فترة مكوثه في المستشفى. يؤكّد كريم تفاني البقاعي تجاه الموضوع، فبقي يتابع كل تفاصيله حتى آخر لقاء جمعهما في مستشفى النجدة في النبطية، قبل نقله إلى بيروت، أي قبل نحو أسبوع من وفاته. في الاجتماع الأخير، وصل كريم وبجعبته محضر اجتماع تغيّب عنه البقاعي، وكان الأخير قد شدّد على تنفيذ الاجتماع وإن تغيّب عنه.

بعد بدء كريم عمله في المدرسة في الرميلة، كان يزور البقاعي بشكلٍ شبه يومي خلال الفرصة، ليتحدّثا بأمور حزبية، والتخطيط لمشروع النجدة. يذكر كريم يوم خضع لعملية قلب مفتوح، زار البقاعي، جلسا جنباً إلى جنب وباتا يقوّيان بعضهما. يصنّف العلاقة به في منزلة الأخوّة: "لسنا مجرّد رفيقين".

أوصى كمال البقاعي بالحزب، بشهدائه، أسراه، وشبابه. أراد وحدته، وهو تحدٍ ومهمّة شاقة. يوم رحيله توافد الشيوعيون من المناطق كافّة لوداعه، فالصادقون لا يحتاجون إلى تكرار خطواتهم، ولا ينتظرون تقديراً واعترافاً بمجهودهم. هم الذين يسكنون الأرض كلّها، يبكون شعوبها، وينتصرون لقضاياها. هم مناضلو الأرض كلّها.