منذ الوهلة الأولى، لم يستطع شيوعيو العالم عموماً، والألمان منهم خصوصاً، تجاهل ميزة ثورتهم التي كانت الرفيقة لوكسمبورغ. فقادت ثورةً في مسيرةٍ ووجهت بقمع عسكري أسفر عن تحالف الدولة البرجوازية مع القوى الرجعية بغية ضرب الحراك البروليتاري، ثم نتائج معاكسة أدت بدورها لصعود قوى الثورة-المضادة الرجعية نفسها في ألمانيا واستلامها سدة الحكم. ولكن يتوجب علينا (كما توجب على لوكسمبورغ نفسها أن تنقد ذاتها بعد فشل التجربة الشيوعية الألمانية الأولية) أن نعود اليها بالفضل لتفعيل حركة التحرر البروليتاري الألمانية بالتزامن مع تلك الروسية بطليعة البلشفيين.
والفضل الأساسي هنا يعود الى تألق الفكر اللوكسمبورغي بموقف فريد من نوعه تجاه المسألة القومية والوطنية: الأمر الذي أثار الجدل بين اليسار وجذب المجتزأين والمحرّفين على حد سواء. والأجدر من ذاك الموقف هو موقف التحرر البروليتاري الذي تبلور بتأسيس عصبة سبارتاكوس المنشقّة عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، عشية إفصاح هذا الأخير عن موقفه الداعم للحرب الإمبريالية الأولى. كانت عصبة سبارتاكوس شرارة التحرر البروليتاري الأولى للعمال الألمانيين.
أما روزا، صاحبة الجدلية و الفكر المادي التاريخي، تبقى طليعية في مسألة التحرر البروليتاري، و مٌلهِمةً لأجيال الشيوعيين و النسوييات و النسويين القادمة، و كل فرد مناضل في سبيل التحرر، و كل شهيد فنى نفسه في طور العملية التحررية .و كان التحرر بالنسبة لروزا حركة بروليتارية بحتة، فهاجمت مبدأ التحرر الوطني من مظور ماركسي في كتابها "المسألة القومية: حق الشعوب في تحرير مصيرها"، مفاتحةً الموضوع بالشكل الآتي: "يتم صياغة عناصر البرنامج السياسي مع مراعاة الأهداف المحددة: توفير حل مباشر وعملي للمشاكل الحاسمة في الحياة السياسية والاجتماعية، التي تعتبر في مجال النضال في الصراع الطبقي للبروليتاريا؛ لتكون بمثابة مبادئ توجيهية للسياسة اليومية واحتياجاتها؛ لبدء العمل السياسي لحزب العمال و قيادته في الاتجاه الصحيح؛ وأخيرا، لفصل السياسة الثورية للبروليتاريا عن سياسة الأحزاب البرجوازية والبورجوازية الصغرى.
أما صيغة "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، بالطبع ليس لها هذا الطابع على الإطلاق؛ فهي لا تعطي مبادئ توجيهية عملية للسياسة اليومية البروليتارية، ولا أي حل عملي لمشاكل القومية. إنها توفر بدلا من ذلك فقط الإذن غير المحدود لجميع "الأمم" لتسوية مشاكلهم الوطنية بأي طريقة مجدية. إن الخلاصة العملية الوحيدة لليوم الذي يمكن السياسة اليومية للطبقة العاملة التي يمكن استنتاجها من الصيغة المذكورة أعلاه هي المبادئ التوجيهية التي هي نفسها واجب هذه الطبقة بأن تناضل ضد جميع مظاهر القمع الوطني."
فكانت روزا من أبرز وجوه النضال البروليتاري، وربط النظرية بالممارسة، كما كانت رياديّة في المواقف التي تضع السياسة البروليتارية في واجهة الصراع الطبقي كقوة فاعلة تتمثل بالمجالس العمالية أولاً، ثم المنظمة الطبقية المستقلة (أي الحزب) لاحقاً بعد فشل نموذج المجالس المستقلة خارج القيد المركزي الديمقراطي. والجدير بالذكر أن البرامج الشيوعي الألماني الأول ارتكز بهيكليته الاجتماعية على المجالس العمالية المستقلة عن القيد المركزي الديمقراطي، والتي انهارت تحت ضغط الهجمات العنيفة من قبل الدولة الألمانية، وتحالف هذه الأخيرة مع الأحزاب الفاشية والرجعية لكسر الثورة الألمانية. وكانت هذه الخطوة (أي النقض الذاتي) خير دليل على تطور الرفيقة لوكسمبورغ الايديولوجي والعلمي الذي تمثل بنقد ذاتها عقب فشل التجربة الأولية، وحل الأمور بنقدها.
لكن رمزية روزا: المرأة، الرفيقة، القائدة، الفِكر والثورة؛ نبذت غوغاء الحروب المحورية الامبريالية واختارت نضالها التحرري أي نضال العمال، ورفضت بدع القضايا القومية الرجعية، مُفَجِّرَةً بذلك الحرب الطبقية بضربة ثقافية عنيفة، مشبوكة بعبق الممارسة والشغف، أي العنف الثوري، وجمال أنثوي وتحرري فظ، يزغرد في علياء الكفاح ضد أنظمة الاستبداد. روزا هي الرمز المقاوم في أبهى حُلَلِه، يسطع نجماً في فلك النضال من أجل حريّةٍ أصبحت واقعاً، ولو بعد زمن. فتحيّة لروزا في ذكرى ميلادها المائة والخمسين (5 مارس 1871).
هذه الرمزية أولدت من رحمها جيل يليه جيل يليه جيل آخر، يورث الفكر التحرري لخَلَفِه، في صيرورة تبلورت بصراعات الشعوب المٌحتَلَّة والمهمشة. وكان باسل الأعرج (المثقف المشتبك) الوريث المباشر لهذا الصراع، وكان في خضمّه، أو بالأحرى من أعاد تفعيله على الساحة الفلسطينية، على الرغم من التناقضات الشكلية بينه وبين روزا.
المثقف المشتبك
هو "الفتى المشاكس" الذي صمّ آذان السلطات المتواطئة الفلسطينية بثقافة تعدت حدود قريته؛ كان المطلوب من الشباب آنذاك ألا يتعرفوا على تاريخ النضال السرمدي الذي امتد منذ قرون خلت، في تماشٍ مع صيرورة التاريخ المادي، يراقصه تارةً، ويندثر كالفكر والثقافة المراهية الذين يجنحان نحو الطوبوية، و يؤبّدان الواقع طوراً. اختار باسل ألّا يغرق في غوغاء الطوباوية كثلّة من المثقفين الأكاديميين في السابق واليوم، أن يطلق العنان لعقله في فضاء المعارك التحررية القديمة وفي وعد المعارك المقبلة. وكيف لتلميذ الصيدلة أن يتّكأ عند شجرة الآثام الوطنية عندما تشتد وطئة التواطئ عند الأقرباء، ويختار بعد صراع طويل مع نفسه أن ينازع فكّيّ الواقع المرير بسواعد مفتولة حرّة تنبأ "جنين" و "اللّد" بأن ساعة التحرير دقّت؟ كيف له أن يفعل كل هذا وبأي حق، عندما مات النضال مع أبو عمّار؟ أو على الأقل، هذا ما علمونا إياه في مدارسهم.
باسل الأعرج كان الظاهرة المقاومة الفريدة في عصر المهادنة الحديث، حيث أصبح التطبيع موضة، وأصبح ذكر اسرائيل وازدراء المقاومة الفلسطينية لقمة سائغة في أفواه السفهاء وضعاف النفوس على حد سواء.
كسر باسل أحجية الجمود في عرين المقاومة، واختار طريق الاشتباك بسلطات الاحتلال والتطبيع، وعدّهما كالعشيقين في سرير واحد، فقد ابتدأ المثقف المشتبك أولى جولات النضال في مظاهرة في الأراضي الفلسطينية ضد زيارة وزير الدفاع الأسبق للاحتلال "موفاز"، وهُدِّد من قبل عدنان الضميري عقب مقابلة أجراها الأعرج مع قناة "الفلسطينية" قبل أن يُخطَف ويُعَذَّب بوحشية الى جانب بعض رفاقه، من قبل شرطة السلطات الفلسطينية المتواطئة، وتمّ احتجازه لفترة ذاق فيها الذل على أيادي أبناء بلده في سجن "بيتونيا". أضرب عندئذ عن الطعام بغية الإفراج عنه ورفقائه، ورضخت السلطات لتلك المطالب.
عرفت مسيرة باسل النضالية محطات عديدة، من التظاهرات وحلقات التثقيف المغلقة، البعض منها علني والبعض الآخر سرّي، وشدّد في كلا النوعين على أهمية الاشتباك عندما يعود الأمر للثقافة، فقال: "بدك تصير مثقف، بدك تصير مشتبك، إذا ما بدّك تكون مشتبك، لا منك ولا بثقافتك، ولا في فايدة منك."
لطالما كان صاحب الفضول حينما يعود الأمر لوصايا الشهداء، فكان يستغرب الوصايا بغياب جوهرها القومي وتطرقها بشكل أساسي للمحتوى الشخصي لكل شهيد. كانت له مقالات وكتابات عدّة، لعل أشهرها هي "وجدت أجوبتي" الذي أرسى فيها المقاومة بهيئة تعريف ديني مقدّس ذات لاهوت "أعرج"، وقد ضمّ هذا الكتاب معظم أعمال المثقف المشتبك.
لاحقته سلطات الاحتلال لمدة ستة أشهر بعد إطلاق سراحه من السجون الفلسطينية، ودامت الحال على ذلك حتى حاصرته في منزل في مخيم "قدورة" القابع في الضفة الغربية، ودام الاشتباك بين الطرفين مدة ساعتين متواصلتين، استنفذ فيهما المثقف المشتبك ذخيرته حتى الطلقة الأخيرة، ثم استشهِد ب21 رصاصة اخترقت صدره و رأسه.
احتجز الاحتلال جثمانه وفاوض على إطلاق سراحه ضمن شرط واحد؛ ألّا يُشَيَّع في قريته "الولجة" قرب "بيت لحم"، خوفاً من ردة الفعل الشعبية الساخطة على اغتيال باسل، نظراً لقرب الولجة للمستوطنات الصهيونية المحيطة.
أما وصيته فكانت:
"بسم الله الرحمن الرحيم
تحيّة العروبة والوطن والتحرير
إذا كنت تقرأ هنا فهذا يعني أنّي قد مت، وقد صعدت الروح الى خالقها، وأدعو الله أن الاقيه بقلب سليم مقبل غير مدبر، بإخلاص دون ذرة رياء.
لكم من الصعب أن تكتب وصيّتك ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، ولطالما حدثتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة البلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة. وأنا الآن أسير الى حتفي راضيا مقتنعا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك ابلغ وأفصح من فعل الشهيد. وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة، الا أنّ ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء. فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم، أمّا نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله."
لا يسعني في مناسبة هذا المقال الاّ توجيه تحية لروحه ولمبدأ الثقافة والاشتباك في ذكرى استشهاده البطولي الرابعة. (6 آذار/مارس 2017).
خاتمة وخلاصة
من لوكسمبورغ الى الأعرج، نرى النهج التحرري ذاته، بوجهه المشتبك الشغوف، بتوجيه نظري، وتطبيق دؤوب، وذو طابع مقدّس وسرمدي يعكس آلام شعوبٍ سُحِقَت تحت وطئة المسيرة الصاخبة للتاريخ المادي، وينتفض كصوت الذين لا صوت لهم، في عالمٍ بُنِيَ على اسمنت من لحم وعظم، ويرتوي من دم العمال والمقاومين. والمقاومين هنا وفي هذه اللحظة هم الذين حذوا حذوَ الأعرج ولوكسمبورغ والكثير الكثير من الرفيقات والرفاق الشهداء. من لوكسمبورغ الى الأعرج، نهج مقاوم واحد. من لوكسمبورغ الى الأعرج، نهج تحرري واحد.
مر اجع أخرى:
https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1909/national-question/index.htm
https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1903/03/14-abs.htm
https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1915/junius/
https://www.jstor.org/stable/40403518
C N Trueman: "The Freikorps And Weimar"
historylearningsite.co.uk. The History Learning Site, 22 May 2015.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=518075الثقافة و الثورة، مهدي عامل (بتصرف
وصية الشهيد باسل الأعرج:
صفحة الشهيد باسل الأعرج على موقع ويكيبيديا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D8%B1%D8%AC