نحو سردية تحرّرية

كتابة التاريخ التحرري ليست كتابة أحداث متفرقة توصف بالبارزة في حقبة زمنية معينة، بل هي أيضاً الكشف عن منطق مولد لهذه الأحداث. وكتابة تاريخ دولة ليس محاولة جمعٍ انتقائي لأحداث حصلت ضمن حيز جغرافي، بل هي محاولة لتحديد بنية داخلية لكيان اجتماعي تعطيه تعريفاً وتؤسس -عملياً- لدور مستقبلي يلعبه الشعب المحاط بحدود هذه الدولة. وفقاً لهذا التعريف، تكون كتابة التاريخ بالضرورة فعلاً ثوريّاً، هدفه تحديد طبيعة الصراع القائم ودحض منطق السردية السلطوية الانتقائي. يستوجب هذا الفعل بالضرورة تحديداً للأنا والآخر ضمن السردية التاريخية. يتوقف تحديد الأنا والآخر على تحديد الصراع التاريخي ومنطقه وطبيعته. ومن جهة أخرى فإنّ تحديد الأنا والآخر ومنطق الصراع هو المصوّب لعملية التغيير الإجتماعي. فبالنسبة للثوري تصبح كتابة التاريخ سردية هو بطلها المواجه للقوى الرجعية، فحاضره امتداد زمني للقوى الثورية السابقة وأمّا الآخر المتثمل بالسلطة الرجعية فهو امتداد زمني للقوى الرجعية السابقة، وإن اختلفت الأسماء والأشكال.

تكمن رجعية النظام اللبناني في كونه ملعباً للبرجوازية التابعة وريثة الاستعمار، وهي المستفيدة من النظام الطائفي الذي يحمي وجودها، والتي تستخدم الخطاب العنصري لتبرير فشلها نحو إعادة إنتاج نفسها. وبذلك تكون الرجعية اللبنانية العدو الداخلي الأول للقوى اللاطائفية التحرّرية المعادية للبرجوازية ضمن صراع عمره أطول من عمر استقلال الدولة عن الاستعمار الفرنسي المباشر. فإنّ عداء القوى التحرّرية للسلطة الرجعية يكمن أساساً في كونها برجوزاية من جهة وفي كونها تابعة من جهة أخرى. تعرّف السلطة الرجعية اللبنانية "المصلحة الوطنية" استناداً إلى رؤية قومية أو طائفية (تبعاً لمصلحة السلطة المرحلية) ضيّقة لمفهوم الشعب. فتصبح الـ "أنا" في خطاب السلطة جملةً من الشرائح الاجتماعية ذات السمة القومية/الطائفية، الخاضعة لهذه السلطة الزبائنية وسياساتها التبعية. وبذلك يصبح اللاجىء المنادي بحقوقه المدنية والسياسية هو "الآخر" و"الغريب". إلّا أننا كطلاب تحرّريين، نعرّف الشعب على أنّه جمعٌ من الناس يتشاركون بقعة جغرافية معينة ورؤية موحّدة نحو العدالة الجماعية. اللاجئون في لبنان على اختلاف خلفياتهم الهوياتية هم فلك أصيل من الفضاء اللبناني التحرّري الذي لا مكانة فيه للسلطة الرجعية وأذيالها إلّا كوجود عدائي نقيض ضمن منطق صراعنا الطبقي. تاريخنا الثوري هو تاريخ مواجهة الإستعمار الفرنسي والبريطاني، تاريخ الفدائيين من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والأردنيين والعرب الذين حموا بيروتنا وقرانا في محطات مختلفة من صراعنا مع "إسرائيل"، هو تاريخ الكادحين العُزّل الذين قمعتهم الرجعية أثناء نضالهم لأجل العدالة الاجتماعية، هو تاريخ الحركة الطلابية وشهدائها نحو تأسيس جامعة الفقراء. حاضرنا امتدادٌ لماضينا، فنحن من وقف بوجه الرجعيين حينما أقروا قانون إجازة العمل، وواجهنا خطاب السلطة العنصري تجاه النازحين السوريين، وواجهنا أيضاً نظام الكفالة ضدّ العاملات والعمال الأجانب في لبنان.
أمّا عن القضية الفلسطينية فهي بإيجاز، قضية التحرر من الاستعمار الإحلالي ومن أنماط التبعية الإقتصادية والسياسية وهي تلخص نضال الشعوب لأجل حق تقرير المصير، أي أنّها قضية لا تقتصر على هوية مجتزأة دون سواها، بل توجد حيث توجد الحركات التحررية. مما يعني أنّنا كحركة طلابية سياسية متناحرة مع المنطق التبعي الداخلي والاستعماري العالمي، فنحن، بالضرورة، أبناءٌ لهذه القضية التي رسمت معالم نضالنا في الماضي وما تنفك ترسمه اليوم.
التاريخ الذي علينا كتابته يحدّد من نحن ومن نواجه، التاريخ الذي يبلور الخطاب الثوري في مواجهة الخطاب العنصري، والتاريخ العلمي المنطلق من مبادىء تحرّرية. ولطالما احتكرت السلطة الرجعية اللبنانية خاصة والعربية بالمجمل كتابة التاريخ وفقاً لسردياتها الاختزالية التي تفرضها على مدارسنا وجامعاتنا وعلى مراكز الأبحاث العالمية السّلعية. لكن اليوم آن لنا أنْ نعلن الحرب ضدّ منظومة التاريخ الاحتكارية، فإنّه من واجبنا التحرّري كحركة طلابية أن نكتب تاريخ شعوبنا بأقلام حُرّة .

* طالب وطالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانية