عن تدمير ذكريات مدينة ووسطها

 
وسط مدينتنا في بيروت ليس ملكنا. هو ملك شركة خاصة أسّسها رفيق الحريري في أوائل تسعينيات القرن الماضي تزامناً مع تولّيه منصب رئاسة الوزراء. يومها، جرت مناقشات من أجل إطلاق عملية إعادة إعمار بيروت، وطبعاً رست المناقصات على شركة أسّسها لتولّي هذه المهمّة الجبّارة، وهكذا خلقت "سوليدير".

ما فعلته فعلياً هذه الشركة هو تدمير لوسط البلد ونسيجه الاجتماعي. فقد كان "البلد" منطقة تستقطب سكاناً من كل المناطق اللبنانية والبلدان المجاورة، من مزارعين، حرفيين وعمّال. وكان جدّي بشير ضمنهم، قادماً من الشام لبيع الورود في باب إدريس في أسواق بيروت. ما قام به رفيق الحريري وشركائه هو تحويل المنطقة المعنيّة إلى Tabula Rasa، أي صفحة بيضاء محت معالم المدينة وأعادت رسمها من جديد. فأغلبية المباني المدمّرة في وسط المدينة دُمّرت من قبل سوليدير وليس خلال الحرب الأهلية. وقد وضعت الشركة الخاصة شروطاً تعجيزية على سكان المنطقة من أجل "إعادة الإعمار"، تتعلّق بمعايير إعادة الأعمار، فأصبح شبه مستحيل عليهم الإبقاء على بيوتهم ومحالّهم.

وبينما لم تستطع الأغلبية الساحقة من المالكين الالتزام بشروط إعادة الإعمار، اضطروا للبيع بأسعار زهيدة للغاية ومحددة من قبل سوليدير. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تم أيضاً تدمير أبنية على رؤوس ساكنيها الذين رفضوا الطرد التعسفي، كما حدث بوادي ابو جميل بشباط ١٩٩٦. فقد هددت الشركة المملوكة من الحريري وشركاه سكان مبنى سكني- وهم بالأصل مهجّرون، لم يملكوا مكاناً آخر للهروب إليه- وعندما رفض هؤلاء الإخلاء، تم هدم المبنى عليهم وذهب ضحيته ١٧ شهيد من السكان والعمّال.

عندما نتحدث عن سوليدير، نتحدث عن تهجير وقتل ودمار. جدي، الأب لـ ١٣ ولد، اضطر لبيع محله مقابل بعض المال والأسهم من الشركة. حلّ مكانه Hermes (والذي يفوق أجاره الشهري على الأرجح سعر البيع الذي قبضه جدي)، محل ثياب أجنبي لم أدخله في حياتي، وليس بإمكاني حتى تخيّل أسعاره. السؤال هو لماذا لم تعد الأغلبية الساحقة من سكّان بيروت (أو ما تبقى منهم بعد تهجيرهم إلى الشويفات وعرمون وبشامون) تزور وتتبضع في ما كان قلب مدينتهم النابض؟ الجواب يكمن في نهج سوليدير من قمع فاضح وآخر ضمني: شركات أمن خاصة تمنع أي أحد "غير مرغوب به/ا" وشكله/ا لا يلائم الوجه الجديد والمزيّف للمنطقة من الدخول إليها، وتغيير طبيعة وسط البلد ووجهة إستعماله بطريقة تجبر رواده السابقين، من طبقة عاملة ووسطى ومهاجرين، على الإحساس بالإغتراب فيه. أكبر مثال على ذلك شارع الزيتونة، والذي اشتهر بكونه "السوق العمومي" أي شارع بيوت الدعارة الفقير المنهك المواجه للبحر خارج أسوار المدينة القديمة وبمحاذاة مينائها. تمّ محو آثار هذا الشارع، الذي تحوّل إلى شارع مساكن كبار المسؤولين والأغنياء، وأغنى أوتيلات المنطقة. ومع ردم البحر، تمّت خصخصة ما سمّي "الواجهة البحرية" وتحوّلت إلى مسخ سمّي بـ "Zaytunay Bay"، أو خليج زيتوناي، وهو منطقة سياحية موجّهة للأغيناء من داخل البلد وخارجه. وبذا، لم تمحو سوليدير الشارع وذكراه فحسب، بل تبنّت اسمه ليصبح أحد المرافق السياحية الحصرية والإقصائية.

وحصرية هذا المكان واضحة بوجهة استعماله (المرفأ مخصص لليخوت باهظة الثمن)، بأسعار المقاهي والمطاعم المرتفعة، برجال الأمن الفارضين لشروط الدخول، وحتى بإسم الخليج الذي حوّل إلى كلمة لا معنى لها باللغة العربيّة فقط من أجل الجذب الإستشراقي للمستهلكين. والمضحك أن شعار الـ Zaytunay موجود فقط بالنص اللاتيني وليس مترجم بالخط العربي. تحوّلت منطقة الزيتونة إذاً بفعل سيطرة سوليدير عليها من مساحة عامّة في متناول الجميع إلى نقيضها، حيّز خاص محصور بطبقة معيّنة.

إضافةً الى ذلك، فإن تغيّر طبيعة المكان تفرض تغييراً في العلاقات الاجتماعيّة. كان جدّي على سبيل المثال يزيّن أروقة السوق والمحال المتاخمة له بباقات من الورود من دون مقابل، كما كان يفعل الحرفيين والمزارعين الآخرين، كل حسب اختصاصه. هذا النسيج بني إذاً مع وجود حس تضامني وتكافلي (مع عدم تحييد المنافسة أو لعب النوستالجيا دوراً في تجميل الماضي) يختلف تماماً عن طبيعة وسط البلد الجديدة الدخيلة. فـ "Beirut Souks"، أو أسواق بيروت الجديدة، صمّمت من قبل معماريين غربيّين استوحوا من أسواق المغرب العربي بنظرة إستشراقيّة جاذبة للسيّاح ومتجاهلة تماماً لتاريخ الأسواق المعماري والاجتماعي، أو لشكل الأسواق قبل تدميرها.
لرفيق الحريري ونظرته لمدينة بيروت آثار عميقة أخرى ما زلنا نتحمل تبعاتها: وضعت قبل وأثناء الحرب الأهليّة عدة إستراتيجيات للتنظيم المدني لعاصمة لبنان من قبل باحثين ومهندسين سوفييت وفرنسيين لمصلحة بلدية بيروت. لحظت هذه الأخيرة خطط للنقل الحضري العام تضمّنت شبكات نقل سريع سطحية خفيفة (كالترامواي الذي كان موجود في الماضي) وأخرى نفقية (metro/subway). لكن إعادة إعمار المدينة من قبل سوليدير وضع الأولويّات في مكان آخر فتم التركيز على فصل وسط البلد عن مدينته بدل النظر في كيفية وصله بالمناطق المجاورة وتسهيل الوصول إليه. أرادوا تحويل ما بات يعرف بالداون تاون من أسواق ومقاهي ومساكن شعبيّة وعامة، إلى وسط تجاري وسياحي غريب ومعزول عن بيئته، فقّاعة نيوليبراليّة تحتوي تركّزاً للإقتصاد الريعي وتبقي آثاره على المهمّشين والمهمّشات خارجها. فألغيت خطط النقل العام، وبنيت طرقاً سريعة تقطع أوصال وسط بيروت عن مناطقها المتاخمة من الشرق، الغرب والجنوب (مع وجود البحر شمالاً). فأصبحت الجمّيزة، الأشرفيّة، الباشورة، الخندق الغميق، زقاق البلاط، الحمرا وعين المريسة كلها مفصولة مادياً عمّا كان قلبها النابض. هذه الشركة الخاصة ازدهرت أيضاً بتدمير البيئة عبر ردم الواجهة البحرية لبيروت وصب الإسمنت على تاريخ شعوب هذه المنطقة. هذه الشركة الخاصة استعمرت أملاك عامة بأبخس الأسعار، فأصبحت حتى الطرقات فيها أملاكاً خاصة.
سوليدير ليست وسط البلد، سوليدير هي تعبير عن نهج إقتصادي همّه مراكمة الأرباح على حساب المجتمع، فدمّر البلد وبيروت. ورغم كرهي لطائر الفينيق والرمزيات المبتذلة، لكن لن يقوم البلد وبيروت إلّا على رماد سوليدير.