أما حالياً فقد دخل هذا القطاع في غيبوبة الاحتضار جرّاء غياب السياسات الصحية الرسمية، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة في تنظيمه، كون مخططاتها المعتمدة منذ 30 عاماً بقيت مجرّد وعوداً على أوراق برامجها الوزارية، أو تصريحات وزراء الصحة المتعاقبون الإعلامية...
كما أن سياسات السلطة في ضرب المؤسسات العامة على حساب المؤسسات الخاصة أيضاً طالت هذا القطاع الحساس والذي يتحكّم بحياة ملايين الفقراء في لبنان اليوم، سواء أكانوا من المواطنين اللبنانيين أو اللاجئين والنازحين..، فكثيراً ما يحرمون من الحصول على العلاج أو إجراء الجراحة اللازمة.
وها هي حياة العديد من المواطنين مهدّدة دائماً بالخطر، بسبب فشل السلطة بالنهوض وتطوير هذا القطاع والوفاء بوعودها في تأمين "الضمان الصحي الشامل" للجميع، ولا سيما أصحاب الأمراض المزمنة الذين اضطروا إلى الاستغناء عن المعاينات الدورية الضرورية بسبب الأزمة الاقتصادية والنقدية وازدياد البطالة، وارتفاع فحصية المعاينة مؤخراً، لعجزهم عن تحمل كلفة زيارة الطبيب وإجراء الفحوصات اللازمة...
وحتى من يعاني من مرض بسيط أو مفاجئ منهم يموت خارج أبواب المستشفى لأنه لا يملك تكاليف العلاج... هذا بحال توفر السرير له. كما حصل منذ أسبوعين، بوفاة طفلين في مستشفيي طرابلس وبعلبك الحكوميين.
أما أصحاب الأمراض المستعصية فلم يجدوا إلّا شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، وسيلة لجمع الأموال عبر التبرعات لتأمين تكاليف عمليات زراعة الأعضاء التي تفشل الدولة في توفيرها.
"الحق في الصحة"
المشكلة الأبرز التي تعيق تطور هذا القطاع، أن الدولة تتعامل مع الخدمات الصحية كسلعة استهلاكية وليس كحقوق وواجبات إنسانية. ففي التسعينيات برزت "السياحة الصحية"، وإضافة إلى طبيعة المناخ والمعالم الأثرية، قصد السائح لبنان بحثاً عن الإستشفاء الجيد والمعالجة الفيزيائية والتجميلية وغيرها... وأنشئت بقرار وزاري هيئة لإنماء السياحة الصحية عام 2001، ورفعت شعار "روح لبنان الصحة"، ترافقت مع حملة تسويقية إعلانية ضخمة، ولقاءات سياسية عربية عرضت برنامجاً متكاملاً لإنجاح هذا المشروع لتسويق إمكانيات لبنان الإستشفائية والخدماتية والصحية...
وتكرّرت هذه التجربة، وأطلقت الحكومة والهيئات الصحية المشروع نفسه بعد عامين، تحت شعار "روح لبنان الصحة 2003"، بوضع مخطط لجعل لبنان مستشفى الشرق الأوسط، بهدف در أموال طائلة على البلد، تًسهم في التخفيض من عجز موازنته وإخراجه من حلقة المديونية العامة، وكذلك من خفض لفاتورته الصحية المرتفعة.
إلّا أن السياسات الحكومية، عوضاً عن النهوض بهذا القطاع، كانت السبب المباشر في تدميره. وطال الاهتراء المؤسسة الصحية العامة، عبر إغلاق المزيد من المستشفيات الحكومية أو تحويلها إلى مستوصفات للمعاينات الطبية أو مراكز علاجية. وهي إذ تبلغ 26 مستشفى حكومياً مقابل 138 مستشفى خاصاً والفاعل منها لا يتجاوز عدد أصابع اليد. بالإضافة إلى عدم إنصاف موظفيها بكافة فئاتهم والمماطلة في دفع مستحقاتهم الزهيدة.
ومن جهة أخرى، يعتبر النقص الحاد في أسرة المستشفيات، وعدم حماية وتطوير إنتاج الدواء الوطني والاعتماد على استيراد 90 % من الأدوية، وأيضاً غياب الرقابة على السلوك الطبي والصيدلي وممارسة المهنة، ونقصٍ التمويل بوزارة الصحة، وتفشي الفساد، والسياسات النقدية الحالية، من بين عددٍ لا يحصى من المشاكل التي يواجهها القطاع الصحي في لبنان. وشاهدنا مؤخراً تزايد ساعات التقنين في الكهرباء والمولدات، وانعكاس أزمة نقص المازوت على المستشفيات المهددة بإطفاء الأوكسيجين فيها... واستدعى تشغيل مولد كهربائي في مستشفى بيروت الحكومي الذي واجه جائحة كورونا ولا يزال، إلى تدخل رئيس الجمهورية، واجتماع وزراء لتأمين بعض ليترات من المازوت من أجل تشغيل جهاز تنفس فيه.
موازنة "الصحة"
أما ميزانية وزارة الصحة في لبنان وكيفية توزيعها، فغير واردة في الموقع الإلكتروني الخاص بالوزارة، الذي لولا نشره أخبار جائحة كورونا لأعددناه أرشيفاً. أما عرضهم للمساعدة بكافة وسائل الاتصال ومنها البريد الإلكتروني فلا إجابة أيضاً. وآخر تحديث لمعلومات عن كلمة "الموازنة" في خانة البحث نُشر منذ 5 سنوات، في حقبة الوزير وائل أبو فاعور والتي هي مجرد أخبار لقاءات وزيارات وتعميمات. وللأمانة، تم إنعاش الموقع بأخبار "إنجازات" الوزير د. حمد حسن في مواجهة "الكورونا".
في 13 آذار الماضي، نشر مركز "الدولية للمعلومات" على حسابه الرسمي على موقع "التويتر" جدولاً يوضح حجم ميزانية الصحة في لبنان وطريقة توزيعاتها. أظهر أن قيمة آخر موازنة موضوعة للصحة هي 1,660 مليار ليرة، أي ما يعادل نحو 1,1 مليار دولار، (سعر الدولار 1500.5)، رصدت الوزارة مصاريف بقيمة 444 مليار ليرة خاصة باحتياجاتها الإدارية والنفقات المختلفة التابعة لها، ونحو 14 مليار ليرة موجّهة لصندوق تعاضد مجلس النواب اللبناني.
ومع ظهور أزمة وباء كورونا، يتّضح أن هذا المبلغ يبدو قاصراً وغير كاف أبداً لتغطية الحالات الطارئة، ولمواجهة هذا الفيروس القاتل والحدّ من انتشاره، حتى بعد توقيع وزارة الصحة اتفاقية قرض مع مجموعة البنك الدولي بقيمة 39 مليون دولار لمواجهة الفيروس في المستشفيات بالإضافة للوقاية منه، وتزويد الوزارة بجهاز PCR.
يُذكر أن الوزارة ترصد حوالي 300 مليون دولار من موازنتها لحساب قطاع الاستشفاء الخاص كتغطية للمرضى الذين يعالجون على نفقتها. يُضاف إليها بعض المبالغ التي تصل إلى 50 و60 مليون دولار وتوضع تحت مسميات عديدة وفقاً للمحسوبيات...
أزمة المستلزمات الطبية
يوماً بعد يوم، تتدهور قدرة المستشفيات على الصمود. ونبعت الأزمة من عدم سداد الحكومة مستحقات المستشفيات العامة والخاصة، بما فيها المستحقات المتوجبة على "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" والصناديق الصحية العسكرية. مما أدّى إلى عرقلة قدرة المستشفيات على دفع أجور عامليها وشراء اللوازم الطبية. كلّ ذلك بسبب بتفاقم الأزمة الاقتصادية والنقدية، وتسبب النقص في الدولار في تقييد استيراد السلع الحيوية ودَفَع المصارف إلى تقليص خطوط ائتمانها.
ومنذ شهر أيلول الماضي علت الصرخات لمناشدة المعنيين بضرورة القيام بواجباتهم تجاه القطاع الصحي، ولكن دون جدوى. ويستورد لبنان 100% من الأجهزة الطبية الضرورية. يُسدد المستوردون السلع بالدولار، لكن يتلقون مدفوعاتهم من المستشفيات بالليرة اللبنانية. وهي كارثة تفتك بالقطاع الصحي كما يفتك وباء كورونا بالعالم، وإن استمرار النقص الكبير في الإمدادات والمعدات الطبية سيخلق وضعاً خطيراً جداً. كما سيسبب الكثير من المشاكل في العمليات الجراحية ومضاعفات.
وظهرت أزمة تأمين المستلزمات الطبية مع السياسات النقدية الأخيرة التي حجزت أموال المودعين وترافقت مع ارتفاع سعر الصرف ونقص الدولار. ولم تنفع تحذيرات العاملينّ في القطاع الطبي من أن مستشفيات لبنان قد تصبح قريباً عاجزة عن تقديم الجراحة المنقذة للحياة والرعاية الطبية العاجلة للمرضى جرّاء الأزمة المالية...
وازدادت حدّة الأزمة وقتها بإعلان المستوردين، أنهم باتوا غير قادرين على استيراد المعدات الطبية للمستشفيات نتيجة النقص في الدولار وغياب تشريعات حكومية تحول دون وضع المصارف قيود اعتباطية على تحويل الأموال إلى الخارج.
وفي 16 تشرين الثاني الماضي، نفذت المستشفيات الخاصة "إضراباً تحذيرياً" غير مسبوق لدق ناقوس الخطر حول النقص الذي تواجهه، وحثّت المسؤولين الحكوميين على دفع المستحقات المتأخرة. كما هدّد حينها الطاقم التمريضي بإضراب مفتوح إذا استمر تأخّر المستشفيات الخاصة والعامة في دفع رواتبهم، أو إذا خُفّضت الرواتب إلى النصف، وهو ما حذّرت منه مستشفيات عدة واستغنت عن عددٍ من ممرضيها، وهذا ما شهدناه بداية العام ومؤخراً في إقدام إدارة مستشفى الجامعة الأميركية على صرف المئات من موظفيها وقسم كبير منهم من الطاقم التمريضي للتغطية على الفساد المستشري فيها بحجة الوضع الاقتصادي.
"يسقط حكم المصرف"
في 24 تشرين الثاني الماضي، طالب مستوردو المعدات الطبية في بيانهم مصرف لبنان بضمان 85% من الدولار اللازم لهم للاستيراد بسعر الصرف الرسمي. وحذّروا من نفاذ بعض الإمدادات الطبية؛ مثل براغي العظام، و"راسّورات" القلب، وفلاتر غسيل الكلى، وأكياس الدم، وقطع الغيار... كما احتجوا على قراره الصادر في 26 تشرين الأول الماضي الذي ضمن إمدادهم بـ 50% من الدولار الذي يحتاجون إليه بالسعر الرسمي، إذ واجهوا مشاكل بتأمين بالـ 50 % المتبقية بسبب حجز أموالهم في المصارف.
بعدها أصدر مصرف لبنان في 21 كانون الثاني، قراراً يضمن 85% من الدولار اللازم لمستوردي المعدات الطبية للاستيراد بسعر الصرف الرسمي، تاركاً لهم تأمين الـ 15% المتبقية من السوق. لكنه لم يلتزم بإعلانه، مما أبقى المشكلة مستمرة.
الأزمة والواقع الوبائي...
"الطبابة، الصحة، الاستشفاء" هي حقوق واجب تأمينها لكلّ مواطن في دول العالم، وإنما أصبحت أحلاماً وكوابيسَ لأغلبية الشعب في لبنان. وذلك بسبب غياب الحكومات عن تقديم المخططات الصحية اللازمة، وتأمين حق المواطن في الصحة والاستشفاء والحصول على الدواء...
وبدلاً من إقرار التغطية الصحية الشاملة والمتساوية بين المواطنين (الضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة)، ها هي المؤسسات الضامنة تعوم في الفساد والعجز... وتجاهلت الوزارات المتعاقبة ضرورة توحيد الصناديق الضامنة وضمّها جميعاً إلى برنامج التغطية الصحية الشاملة بما يوقف الهدر والذّل للموظفين والعمال والعسكريين وغيرهم، ويحدّ من العجز في الميزانية العامة للدولة.
على صعيد كورونا، الأزمة تتفاقم والوضع غير مريح. ووصل عدّاد الإصابات إلى أرقام مخيفة، كذلك نوعيتها، ما يعني أننا أمام مرحلة صعبة، حتى قبل أن تبدأ الموجة الثانية من انتشار الوباء.
ففي سياق مستمر لتأزم الواقع الوبائي، سُجّلت 175 إصابة جديدة بـ "كورونا" (144 مُقيماً و31 وافداً)، السبت الماضي، وهو الرقم الأعلى الذي يُسجل في لبنان منذ اندلاع الوباء في 21 شباط الفائت.
كما خطف كورونا والإهمال مريضاً على أبواب المستشفيات، والذي أدخل مساء الخميس 24 الجاري إلى مستشفى تمنين واكُتشفت إصابته بكورونا يوم الجمعة، وعندما اتصل أهله بالمستشفيات الحكومية كان الرد بأن لا سرير له.
وبما أن الإصابات بدأت في صفوف السياسيين مع النائب جورج عقيص وابنة وزيرة الدفاع زينة عكر، هل ستسارع الحكومة للقيام بمسؤولياتها تجاه القطاع الصحي، لتوقف تدهور قدرة الشعب اللبناني على الوصول إلى الخدمات الصحية المناسبة؟ وإذا لم تُحَل الأزمة، سيموت المرضى داخل المستشفيات، لأنّ شركات كثيرة توقفت عن استيراد معدات طبية أساسية، فضلاً عن تعطل الكثير من الآلات وعدم القدرة على إصلاحها بسبب تجميد عمليات تحويل الأموال.
وما لم تتّخذ إجراءات عاجلة لاستيراد اللوازم الطبية الحيوية، قد يثقل الكورونا كاهل النظام الصحي المنهك أصلاً. ولا سيما بعد إصابة الطاقم الصحي بالفيروس وبالأخص في صفوف الممرضين والمسعفين، ووفاة أول طبيب به د. لؤي إسماعيل (32 عاماً) وهو لا يعاني من أي أمراض مزمنة.