لبرهةٍ توقف الزمن، وعادت لكلٍّ واحدةٍ منّا على حدةٍ ذاكرة التفجير والحروب. ذاكرة التشرد وأقبية الملاجئ... لا بد أنه اغتيال أو موت آخر...!!، غاب العقل وساد الخوف. أمسكت بيدِ صديقتي، وهرَعْتُ مثل لبؤةٍ شرسةٍ غطّت صغارها مخافةٍ من ذئبٍ مفترس قد يلتهم جناحيَّ، ويكسر قلبي... أدركت أنه زلزال ينذر بطبول الحرب، وبناقوس الخطر. كانت بيروت... شاهرةً عُريَها، تنحب جسدها، وتجلد أخاديدها بالسياط على من رحل عنها من لؤلؤ ونجمات... لقد بكتكِ الأمهات كما السماء كما شبانها وشاباتها... على فقدان البشر قبل الحجر... نلملم أشلاء شهدائنا العابرة فوق الطوائف والمذاهب... خصلة شعر هنا وحذاء هناك صنارة جوعٍ هنا... ودمية طفلٍ هناك... والكثيرَ الكثير من الآهات. لقد وحَّدَهُم الموت... وحّدهم الدّمار.... وحّدنا البكاء. ارتدينا قمصانهم المفعمة برائحة العرق والنار... برائحة الفقد والعناء. تقمّصنا وجوههم في مؤنِ ذاكرتنا الموجعة، وأمسينا نعدُّ أيامنا على أصابعنا يوماً بعد يوم. نترِقّب مدار الوقت وعقارب الساعة، ربما لأجَلٍ ما... أو لمجازر أخرى... ليت للموت أباً وأماً كي يتذوّق مرارة الدّمعِ والحرمان. أن تستيقظ أمهاتنا دون قبلة الصباح على جبين الورد. على الدعاء والحمدِ لهم. على انتظار عودتهم. على حداء المساء قبل النوم... كيف يفسّرون تبرير الغياب، وأثواب الفرح على غفلة منّا... كما غنّت السيدة فيروز: أتاري الأحبة عَ غفلة بيروحوا وما بيعطوا خبر.
من صنع هذا القهر، وجعل من سياجه سلاسل صدئة، تجلد فيه الروح، وترمّم الجروح بجملة من الكلام... لقد سقطت الخطوط الحمراء... وسقط الحلم في المستنقع... وبيروت... يا أسطورة المجد والحرف... من ألبسك ثوب الحزن وأنت ست المدن والبلاد... من ارتكب المعاصي بثرى مملكتك... من شرَّع هتك جسدك ومزَّق أشفار عينيكِ... من مسَّ كبرياءك وجرَّح سكناكِ... بيروت يا زهرة الياسمين النقية. عقدت براعمها جميلة ندية... نثرتها بفعل عاصفةٍ غبية، وكان التراب لحافًا للقلوب الطرية... بيروت، لِمَ تعاودينَ الالتفات الى الوراء، وتسترجعينَ وجَعَ عاملٍ ومجازرَ قانا وبكاء أطفالنا وأنين كبارنا... لقد لفّنا الحزن بسياجه. كأن التاريخ يعيد نفسه... ماذا فعلنا وكؤوسنا أنخاب من الدماء..
بيروت سامحينا لأنّنا لم نفقه لغة صمتك، ولم نعِ لون عينيك. نحن يا سيدتي نسمع الكلام، ونأتمر بالأفعال. لا تصدّقي كلَّ من أعلن الحبَّ والولاء، ولا من قدّم العهد والوفاء هباءً على بساط راحتيك... بالأمس مررتُ كحارسٍ ضرير يجول الساحات معلَّقاً بأذيال الخيبة... انتظرت معجزة اللا شيء... بحثت عن قلم ودفتر... عن لوحة جدار عن ملامحٍ مفقودة... عن ضحكةٍ تائهة على رصيف فارغ من المارة... وجدت كرسيّاً خاوياً من الروح، وكأساً مملوءةً بالخوف والأشباح... لا شكّ أنّ التداعيات التي خلّفها هذا الانفجار زادت من حدّة الأزمات... من قهرٍ وبؤس... من اقتصاد منهار... من سلطة فاسدة ومتبجّحة تتربّص شاشات التلفزة، تذرف دموع التماسيح، تنطق سمّاً زعافاً يتناثر على مسامِعنا... لقد كان الثمن باهظا ًمن مطأطئ الرؤوس... حافظي الكلام... خانعي الأسياد... أنجاس الأرض. بيروت... لم تكن أبوابك موصدة فأصابنا البرد والخوف الفقر والعوز. بتنا نتلقّى المساعدات من الجمعيات، وننتظر معجزة المنجّمين والعرَّافات... يا حورية النساء... إمسحي الرماد عن الجباهِ، وامنحي لنا الأنفاس... كيف لا، وأنت من كرّستكِ سفيرة النجوم، وعلى مسارحك بصمات العمالقة كالرحابنة والصافي ونصري، والغائب - الحاضر أبداً شوشو.
إفردي كالملاك جناحيِّكِ، وغطّي وجوه الشهداء لينعموا بالسكينة والسلام. لملمي رمادك واصنعي كٌحلاً حجريّاً لعينيك. إمنحي القبل للساهرين على نوافذك... لا بدّ لليلك أن يسطع على أضواء السمرِ والسهر. على همس العاشقين، ورسائل الحب. على كتابة الشعر، وزائري المقاهي. تزيّني بأجمل الحلل يا ملكة النساء ورغبة الرجال. تمايلي وارقصي رقصة الفرح العائد من الوجع. لا تدعي السواد يغتال وجهك... لكِ الأغاني والثورات قرباناً لوجنتيكِ. بيروت لقد زهدنا بالحبِّ وذرفنا الدّمع والدّم...
ألا يكفي؟ ... لقد صدق النزاري عندما قال: " الآن عرفنا ما معنى أن نقتل عصفوراً في الفجر. الآن عرفنا ما معنى أن ندلق فوق سماء الصيف زجاجة حبر. الآن عرفنا أنّا كنّا ضدّ الله وضدّ الشّعر. " والآن... الآن عرفنا أن القتل والإرهاب يشدّنا عزيمةً واصراراً لنزعة الحياة والأمل... إخلعي عنّا رداء الطائفية والنرجسية. دعينا نرتدي ثوب هوُيتنا الوطنية، لنتخلّص من التشرذّم والدونيّة. لنعود، كي نعودَ لحضن الوطن الواحد... لن يُرهبنا الموت ولن ترهبنا الأزمات...
سلامًا على الشهداء
سلامًا على الأطفال
سلامًا لكِ وعليك