في اليوم التالي، وفيما انشغلت دولتنا العليّة بشحذ المساعدات على أجساد الضحايا من المجتمع الدولي، تحرّك الشعب اللبناني بكافة أطيافه للمساعدة في إزالة الركام. نساءٌ ورجالٌ، شبانٌ وشاباتٌ وأطفال من كل المناطق حملوا المكانس والرفوش ونزلوا الى الأماكن المتضررة لرفع الانقاض وإزالة الزجاج. دبّ فينا الحماس للمساعدة فهذا أقلّ الواجب في هكذا محنة. اتصلت بي صديقتي رضوى- وهي مصرية الجنسية تعيش في لبنان منذ عدّة سنوات- لتسألني إذا كنت أوّد التطوع في أعمال الاغاثة، وبالطبع وافقتها. بعدها، توجهنا الى منطقة مار مخايل والجميزة وعندما وصلت تسمّرت مكاني لدقائق. المشهد كان لا يوصف بالكلمات.
نظرت من حولي، كان الناس كخلية نحلٍ لا تهدأ يعملون بكل جدية وتفانٍ والبعض يستريح بين الفينة والفينة يلتقط عدداً الصور. أمسكت هاتفي لألتقط صوراً للدمار، لكنني عجزت. خانتني يدي التي بدأت ترتجف كأوراق الخريف. فأنا كنت قد أمضيت أجمل أيام عمري بين مار مخايل والجميزة. لي ضحكات دفينة في كل زاوية من زواياها، وذكريات لا تموت. لم أقم يوماً بالتقاط الصور في هذه الأماكن، ليس لأنني لم أعرف قيمتها بل على العكس تماماً، كنت أخال أن هذه الأماكن باقية ما دام لبنان باقي. حاناتها ومطاعمها وأماكن التجمع فيها، أبنيتها العتيقة الجميلة التي تروي قصصاً من تاريخ عابق بالعزّ والتي ترخي في نفس من يسير بينها الكثير من السكينة والنشوة في آن .. لم أفكّر يوماً بأنها ترفٌ أصبح اليوم ركاماً وغبار.
عملت بضع ساعات في إزالة الحطام من "كافيه ام نزيه" المعروف في المحلة، ولكن كنت في كل مرة أغوص في العمل، أختنق أكثر فأكثر وأشعر بعجزٍ أكبر مع يقين أن شيئاً لن يعود كما كان. شعور بالكآبة بدأ ينهش روحي بعد أن جفّ الدمع في مقلتيّ وجعلني عاجزة عن البكاء فانصرفت وعدت أدراجي نحو المنزل.
في المنزل، بدأت باستعادة الصور في رأسي بين ذكريات الماضي السعيد وفاجعة الحاضر الأليم. فوجدتني أبكي بسخاء عارم، لم تنهمر الدموع من عينيّ وحسب بل من أعماق روحي. وجدت نفسي أنا التي لطالما وقفت ضد تطبيق عقوبة الإعدام، أطالب بتعليق المشانق لكل من تسبّب عن علم أو غير علم بهذه الجريمة، التي دمرت بيروتنا، قتلت أبناءنا وتركتنا في حالة ضياع لا ندري إن كنا مازلنا على قيد الحياة، عالقين بين مطرقة الموت وسندان الجحيم الماثل أمامنا.
ما عدنا كلبنانيين قادرون على أن نتحمّل المزيد. ثلاثون عاماً وأكثر ونحن محكومون من سلطة فاسدة أربابها زعماء الحرب الأهلية الذين بنوا زعامتهم على دمائنا. سلطة لم تستحي من نهب أموالنا و إفقارنا حتى إذا ما فرغت مننا حكمت بقتلنا وبدمٍ بارد.
مضى قرابة الشهر على فاجعة المرفأ، وحتى الآن لم يظهر متهّم واحد يتحمّل مسؤولية هذه الجريمة. لكننا نعرفهم جميعهم بالأسماء وتاريخهم الأسود مثل قلوبهم ونحن لن نسامحهم. في الدول التي تحترم مواطنيها هكذا جريمة تسقط نظام بأكمله، أما نحن فقد بلغ الفجور لدى من يحكموننا درجةً، أنهم راحوا يتقاذفون التهم حتى شعرنا في النهاية أننا نحن من تسبّبنا بقتلنا لأنفسنا ونحن من حوّلنا بيروتنا الحبيبة إلى أشلاء وركام.
مضى قرابة شهر والحقيقة الوحيدة المؤكدة التي نعرفها أن انفجار مرفأ بيروت هو ثالث أكبر انفجار في تاريخ البشرية بعد هيروشيما وناكازاكي، وأنّ البحر الذي لطالما شكونا له همومنا وعذاباتنا في هذا البلد، أبى أن يكون شريكاً في الجريمة، وبرحابة صدرٍ تلقّف 60% من حجم الانفجار ولولاه لكانت أبيدت بيروت عن بكرة أبيها. والمؤكّد أن حياتنا قبل هذا الانفجار ليس كما بعدها.
انه الخامس والعشرون من آب، حالي حال معظم اللبنانيين لم أتمكن من تخطي الانفجار، حتى بات الاكتئاب خصم عنيد يزاحمني في أيامي. أستقلّ سيارة الأجرة من مكان سكني وأتوجه إلى غايتي. السائق رجل ستيني، باشر حديثه معي بعد ثوانٍ من جلوسي في السيارة وكأنه كان بانتظار من يشكو له ما في صدره، قائلاً:أتعرفين أنني نجوت بأعجوبة لحظة الانفجار فقد كنت في الأشرفية حينها. ومن يومها كلما مررت بمار مخايل والجميزة أبكي. " لقد دمّروا حياتنا ولا شيء يعوض خسارتنا ثمّ يستطرد: " قال عم يوزعوا مساعدات، الذي دفع شقى عمره على شراء طقم كنابايات أو تلفاز جديد هل سيعيدون له ما خسره؟ هل كراتين الأرز والعدس سترمم ما تهدم؟". طبعا أجبته بالنفي فتابع:"هل تعلمين أن متر النايلون بات بخمسة عشر ألف ليرة؟ وإصبع السيليكون بثلاثين ألف والشتاء على الأبواب؟ ما بعرف ليش هالشعب ساكت..عمّي قولك من شو خيفان؟ يضربونا؟ يوجعونا؟ ليش بعد فينا شي بيوجع عمّي؟ يضربونا يضربوا هيدي منها حياة ونحن منا عايشين".
صدق سائق التاكسي عندما قال إننا نحن الناجون من الانفجار اللعين، المتحررون من توابيت الموت لغاية نجهلها، بتنا رهينة ذنب النجاة، وإثم حياتنا التي تخطينا فيها صبر "أيوب" بأشواط، وبات الأرق شبحاً يطاردنا إلى المضاجع، يطرد أحلامنا، ويسلّط علينا كوابيس دقائق ما بعد النجاة اللاإرادية وانهيار كل ما هو حولنا.. هل نجونا حقاً؟ إذا ما هذا العذاب الذي ينهشنا؟ بيروت كانت الروح والنفس. اليوم روحنا بات تختنق عالقة في حناجرنا ولا شيء يخفّف هذا الوجع.
عن لحظات انفجار مرفأ بيروت: النجاة من الموت.. وكوابيس ما بعده القاتلة
لا زلت أعجز عن النوم منذ فاجعة تفجير مرفأ بيروت، قلقٌ دائم وكوابيس تهزّ مضجعي كل ليلة، الصوت المهول الذي سمعته لحظتها وجعل رأسي يعتصر، مشهد الزجاج المتطاير.. صريخ الرجال.. عويل النساء.. بكاء الأطفال... حالات الإغماء.. والدماء في كل مكان. أنتظر حتى الغسق لأغفو بضع ساعات، وربما هي شدة الإعياء والتعب هي ما تغلق عيناي. أتذكر ما عشته الدمار الوجوهً الملطخة بالدماء وصور الضحايا أسماءهم قصصهم، أناس حتى الرابع من آب لم أكن أعرف بوجودهم ولكن منذ ذلك اليوم باتوا جزءاً لا يتجزأ من حياتي باتوا وجع العمر.
وما يجعل الحياة ثقيلة أنه لايزال هناك مفقودين، وأناس يبحثون عن أحباءهم بين الركام. بعضهم يتشبّث بأمل كاذب والبعض الآخر استسلم للقدر، ولكنه يبحث عن أثر لفقيده ليضعه في النعش كي يزفه شهيداً على مذبحة الوطن ويبكيه لاحقاً عندما يبرد الوجع. ولكن هل يبرد الوجع حقاً مع مرور الوقت، كيف لي ذلك أن يحصل ومن تسبّب في قتلنا لايزال حراّ دون عقاب ويتحكم بباقي ما تبقى من مفاصل حياتنا؟
كنت أظنّ أن الرابع من آب 2020 كان سيكون يوماً عادياً مثل باقي الأيام ولكنني أخطأت. دخلت إلى مصعد المبنى حيث أسكن عند الساعة السادسة إلاّ عشر دقائق. كنت متوجهة إلى منطقة بدارو، أذكر التوقيت لأنه في تلك اللحظة رن ّ هاتفي، أجبت ثم أقفلت ونظرت إلى مرآة المصعد. كنت بالصدفة أرتدي قميصاً أسود اللون، فقلت في نفسي لماذا يا فتاة اخترت هذا اللون، لون الحداد والموت وفجأة أصابتني انقباضة في أحشائي ورجفت خوفاً دون مبرّر أو تفسير. خرجت من المبنى واستقليّت سيارة الأجرة. قرابة السادسة ودقيقتان دوّى الانفجار الاوّل. كنت حينها عند مستديرة الطيونة، أنزلني السائق في عجالةٍ حتى أنه لم يأخذ الأجرة مني، وقال لي يبدو أن هناك انفجار في العدلية لذلك يٌفضل أن تعدلي عن الذهاب إلى بدارو. طبعاً لم أكترث بما قاله، عبرت الشارع ودخلت إلى بدارو وتناولت هاتفي. أردت الاتصال بصديق ليؤكد لي خبر الانفجار، لكن لسبب ما توقّف هاتفي عن تقبّل بصمة أصابعي ورحت أتصارع معه، وفي خضّم صراعي هذا، دوّى الانفجار الكبير.
إنها السادسة وأربع دقائق من مساء الرابع من آب، توقف الزمن لديّ عند هذا التوقيت. صوتٌ مهول وضغطٌ كبير جعل رأسي أشبه ببالون منفوخ تمّ وخزه بإبرة. موجةٌ غير مرئية اخترقت جسدي بحيث شعرت وكأن أحدا يدفع بي، فيما ارتفعت خلفيات السيارات السائرة في الشارع. ترافق ذلك مع تتطاير زجاج المباني أمامي. ولولا أنني توقفت لأصارع هاتفي الجوال لكنت حتماً خسرت ساقيي في تطاير زجاج مدخل مبنى تفجرأفقياً على بعد خطوتين من مكان وقوفي. لست أدري إن كان تعبير "الصدمة" يكفي ليصف ما أصابني في تلك اللحظات، انتابني خليط من المشاعر يرافقها حالة من النكران. عقلي كان يرفض الاقتناع بأنّ ما يحصل أمامي هو أمر حقيقي، خلت أنني في فيلم أميركي عن نهاية العالم. أغمضت عينيّ وأنا أقول لا، لا، مستحيل هذا ليس حقيقياً. ثم فتحتهما مجدداً ورفعت نظري إلى السماء وإذ بدخان أحمر اللون يتصاعد مشكلّاً حبّة فطر هائلة. عرفت لاحقاً أنه لم يكن مجرد حبة فطر تصاعدت نحو السماء بل أخطبوط الموت زحف من المرفأ وأرخى بذراعاته فامتدت لتضرب "بيروت" كلها.
وفجأةً، انطلقت زمامير السيارات بشكل جنوني، وعلت صافرات سيارات الإسعاف التابعة للجيش اللبناني اذ أنّ المستشفى العسكري يقع في نفس المنطقة، تبعها سيارات للدرك. ضرب الذعر الشارع برمته، بدأ الناس يركضون على غير هدى بعضهم أصيب بتطاير الزجاج والبعض الآخر خرج من منزله. حالات اغماء مترافقة مع بكاء نساء وأطفال ورجال غاضبون ولكنهم خائفون أيضاً.
كان هاتفي لا يزال معطّلاً! استوقفت أوّل رجل لم يصبه الزجاج المتطاير وكان يحمل بيده هاتفه فسألته ان كان هاتفه يعمل وان كان يعرف ماذا يحصل فأخبرني أنه ورد خبر عاجل بأن انفجاراً هز بيت الوسط. فقلت له: لا، لا يمكن أن يحصل ذلك. رمقني بنظرة استغراب. لم أكن في تلك الثواني أحاول منافسة العرّافين في لبنان أمثال ميشال حايك وليلى عبد اللطيف على التنبؤ بالتوقعات، ولكن دون إرادة مني عدت بذاكرتي إلى العام 2005 وحادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكل المرحلة السوداء التي تبعتها ولم أشأ أن يتكّرر ذاك التاريخ الأسود.
وفجأة قطع حبل أفكاري صراخ صديقة لي صودف وجودها في المكان. رانيا أهذه أنت؟ منّة ما الذي تفعلينه هنا؟ فأخبرتني أن السائق أنزلها هنا. أدركتُ أنّ ما أعيشه كان حقيقةٍ. حضنتها بقوة وكان الخوف بادٍ على سحنتها التي اتشحت بالاصفرار ثم استدركت بعد برهة أن صديقي يعمل في الشارع نفسه. فودعتها سريعاً وأخبرتها أنني أريد أن أطمئن عليه. ثم سارعت بالركض نحو مكتبه. عند مدخل المبنى كانت عدد من النساء يفترشن الأرض، إحداهنّ تحضن عاملتها المنزلية والاثنان تبكيان. حاولت أن أقول لهما "الحمدالله على السلامة" ولكن خانتني أوتاري الصوتية. ركضت السلالم صعوداً الى مكتب صديقي الذي يقع في الطابق الأول، ولكن شعرت كأنني أصعد ألف درجة، وأن هناك سنوات ضوئية تفصلني عن الوصول إلى عتبة الباب. وفجأةً عثرت على باب المكتب مفتوحاً على مصراعيه وزجاج محطم يملأ الرواق شعرت بالشلل يمتد إلى أطرافي.
رحت أصرخ مناديةً باسمه، لكن دون أن ألقى جواب. بدأت التهيؤات تتدفق في رأسي. تخيلت أنني سأعثر عليه ملقى على الأرض، ومضرجّاً بالدماء. خانتني ساقييّ في تلك اللحظات، لكن حاولت الدفع بجسدي إلى الداخل توجهت الى غرفته وفجأة فتح الباب وخرج وزميلته من الغرفة كانا يختبآن ظناً منهما أن هناك قصف اسرائيلي. غمرتهما بشدة ضاربة عرض الحائط بضرورات التباعد التي تفرضها جائحة الكورونا، ثم انفجرنا جميعاً بنوبة ضحك هستيرية. وسرعان ما بدأت الصورة تنجلي ووصلنا الخبر اليقين: انفجارٌ وقع في مرفأ بيروت، عشرات القتلى، آلاف الجرحى، وبيوت مدمرّة عن بكرة أبيها. عاد الهاتف يعمل من تلقاء نفسه وانهالت الصور والفيديوهات، فوقعنا في صمتٍ شديد. في المساء، تابعت نشرات الأخبار، 2700 طن من المواد المتفجرة اشتعلت في العنبر رقم 12 وخلفّت دماراً هائلاً. وكأن بيروت حتى الأمس القريب كانت أشبه بلوحة مرسومة بقلم رصاص وكان هذا الانفجار بمثابة الممحاة التي محت كل شيء.
أطلّ المسؤولون غير المسؤولين عبر شاشات التلفاز ومنصاتهم الالكترونية وراحوا يسوّقون لجهلهم بوجود هذه المواد، فيما تفننّوا كعادتهم في تقاذف التهم والاستغلال السياسي كل من زاويته، ليشدّوا حولهم المؤيدين ويحقّقوا مكاسب في السياسية. ولكن هذه المرة لم يفلحوا، فالدمار طال كل المناطق والضحايا كانوا من مختلف الطوائف والمذاهب على امتداد الـ10452 كلم مربّع.
ضحايا الانفجار، كانوا ولغاية الأربع والعشرين ساعة التي أعقبته، ما يناهز الثلاثة آلاف جريح والمئة وخمسين شهيداً ونحو ثلاثمائة ألف بيت مهدّم. ومع ذلك لم يحرك المعنيون في السلطة ساكناً. لم ينل أحد منهم شرف الاستقالة كرمى لدماء الأبرياء التي روت أرض الوطن. أبرز الضحايا كان فريق من عناصر الدفاع المدني الذين طلب إليهم التوجه لإطفاء الحريق، صورتهم وهم يقفون أمام باب العنبر يحاولون فتحه لإخماد الحريق دون دراية منهم بما يخبئه حفرت في داخل كل مواطن لبناني. وكيف أن هناك من كان يعلم بما يوجد في هذا العنبر وخلف هذا الباب ومع ذلك، سمح لهم بالتوجه بأرجلهم نحو التهلكة والوقوف أمام فوهة الموت المحتم دون أن ترفّ له جفن. كُتبت لهم الشهادة أثناء تأدية الواجب ووسم قاتلهم بلقب المجرم الوحش.