تقول لهذا البعض إن هذا النظام الطائفي هو نتيجة وليس سبباً، يقول لك أعرف ذلك، ولكن هذه النتيجة هي وراء كل مآسينا وأزماتنا فتستحق أن تكون الهدف المباشر لنضالنا. ويتابع بالقول، ما الفرق أن يكون سبباً أم نتيجة، المهم القضاء عليه.
لأن القضاء عليه هو أمر بهذه الأهمية، علينا إذاً أن نفهم طبيعته.
ليس تفصيلاً أن يكون النظام الطائفي نتيجةً. هذا يعني أن هنالك مسبِّباً له سوف يعيد إنتاجه أو إنتاج بديلٍ مشابهٍ له حتى لو نجحنا في تدميره والقضاء عليه. بشكل أدّق، هذا المسبّب سوف يكون عائقاً أساسياً أمام إزالته بحكم قدرة هذا المسبب على إنتاجه بتأمين شروط ديمومته. هنا تكمن صعوبة النضال المباشر في اتجاهه. هذا هو الحائط.
إن محاولة شرح واقعنا المادي بما لديه من عوائق في التطور وأزمات بنيوية وتشوهات انطلاقاً من تخلف أفكارنا وعلاقاتنا الاجتماعية (ومنها الطائفية) هي غير علمية لأن العكس هو الصحيح. لا يمكن تفسير حياة الناس وواقعهم المادي انطلاقاً من وعيهم وأفكارهم، بل أفكارهم ووعيهم انطلاقاً من حياتهم وواقعهم المادي.
"لاتستطيع العلاقات القانونية والأشكال السياسية للدولة أن تفسّرَ نفسها بنفسها، ولا عن طريق ما يُدعى التطور العام للعقل البشري، إن أساسها بالعكس هو في ظروف الحياة المادية" (كارل ماركس). من هنا البداية. فلنبحث إذاً عن مرتكزات حياتنا المادية التي هي الأساس لكلّ تشوهاتنا وأزماتنا وليس العكس.
كما ذكرنا سابقاً وفي مقال آخر، إن اللبنانيين ينتجون حياتهم وفق اقتصادٍ "رأسمالي" تابعٍ وريعي يعتمد بشكل أساسي على استجرار التحويلات من الخارج وبخاصة النفطية منها. وبالاستناد إلى هذه المرتكزات، هم يدخلون في علاقات إنتاج محدّدة ومستقلة عن إرادتهم، وتشكّل هذه العلاقات أساس البنيان الاقتصادي للمجتمع. نشأت بالتالي الأطرالسياسية والقانونية والمؤسسية والإدارية والثقافية التي تنسجم مع هذه العلاقات وشكّلت البنيان الفوقي المناسب. بذلك يكون اللبنانيون، موضوعيّاً، الأبناء الشرعيين لعلاقات الإنتاج هذه ولاقتصادها الريعي التابع. بهذا المعنى الطائفية أو النظام الطائفي، كجزء أساسي من البنيان الفوقي، ليست خياراً إراديّاً اختاره اللبنانيون لأنفسهم وبملء إرادتهم، بل هي النتيجة الموضوعية التي حتّمها نمط الانتاج التبعي الرأسمالي الذي نشأ وتكوّن في أحشاء العلاقة مع الاستعمار.
يتوزّع الريع عبر القنوات الطائفية، مؤسساتها وإداراتها وبنوكها وهيئاتها كافة، وبذلك تشكل هذه القنوات الطائفية حاجة موضوعية لواقع المجتمع المادي. لذلك، إنّ القضاء على قنوات التوزيع هذه، بالقضاء على الطائفية نفسها، لو حصل، مع الإبقاء على نمط الإنتاج الريعي، أمرٌ في غاية الخطورة قد يؤدي إلى تراكم الريع في أعلى الهرم وازدياد الفوارق الإجتماعية. بالطبع لن يحصل ذلك لأنّ الواقع المادي المتمثل بنمط الإنتاج الريعي هو ما يفرض البناء الفوقي الذي يناسبه.
محاولة إحراز خرق في واقع الناس المادي عبر التأثير على وعيهم وسلخهم عن طوائفهم هي إذاً مقاربة مثالية تحاول وضع الهرم على رأسه عوضاً عن قاعدته.
بالطبع، تمتدّ جذور المسألة الطائفية عميقاً في التاريخ، "كانت مستقرة داخل السلطنة ولم تتحوّل إلى بؤرة نزاع إلّا في إطار مشروع أوروبي لتفكيك السلطنة من الداخل. واستخدمت لهذه الغاية مختلف أشكال التحريض القومي، والطائفي، والقبلي، والعرقي، والمذهبي، والوعود بالاستقلال، وبناء الدولة الوطنية أو القومية منذ أواخر القرن التاسع عشر" (مسعود ضاهر في كتاب: الجذور التاريخية للمسالة الطائفية اللبنانية). تفاقم الطائفية ترافق إذاً مع المخططات الاستعمارية التي اجتاحت لبنان والمشرق العربي. تجذّر النظام الطائفي واستمدّ ديمومته من الواقع المادي الذي نتج عن هذه المخططات.
أي مقاربة للمسألة الطائفية لا تعيد النظر في نمط الإنتاج الذي يثبّتها ويؤمّن استمرارها انطلاقاً من حاجته إليها هي مقاربة قاصرة تتعامل مع هذه المسألة كمفهوم طوباوي أخلاقي (لا أخلاقي) لن يؤثر فيها.
لا حل حقيقي إلّا ببناء اقتصاد منتج، متفلّت من التبعية يسهم في بناء علاقات إنتاج جديدة وبالتالي بناء فوقي متطوّر (لا طائفي بالتأكيد). إنّ بناء هكذا اقتصاد له مقتضياته المادية الضرورية لتأمين إمكانية تحقيقه، وتمكين شعوب المنطقة من بناء مشروعها المشترك الذي يؤمن تطورها وإنماءها وإنتاج حياتها، يتطلّب ذلك عدّة مقتضيات، يتمثّل أوّلها في إعادة النظر في ما صنعه الاستعمار تاريخيّاً.
دون ذلك أعتقد إنه الحائط!