لم تجزع الأنظمة البرجوازية يوماً من الواقع الذي تشيّده حركية رأسمالها المتوحش. لا تخاف الأنظمة البرجوازية الكشف عن لازمة الفقر والقمع والنهب والقتل، في تراتيل الموت ومجالس العزاء. لا تخاف البرجوازية من مشهديات الواقع الذي تخلقه انماط استغلالها المُنظّم. فنَجاةُ فقير واحدٍ من فقراءها، وشبعُ فرقة واحدة من جياعها، واخلاء سبيل جمعٍ متواضعٍ من سجناءها، هي احداث كافية لتزيد من "الخزّان الاحتياطي" لاخلاقياتها الغيبية المترهلة. خلاصٌ فردي واحدٌ كفيل في أن يدعم مفاهيمها السياسية الموحشة، تلك التي تُحصّن بدعة "الشرعية المؤسسية الدولاتية" و"الحرية الفردية" ولاهوتية "العدالة" في مفاهيم عقودها الاجتماعية بشكلها الرأسمالي المعاصر. لذا ترى السلطات لا تمانع قيام مجموعات من الكُتّاب والمحررين، بتوثيق وكتابة مآسينا وآمالنا وأحلامنا أو حتى كفاحاتنا. لا تُمانع بتوسع مراكز الأبحاث ومنصات الاعلام التي تُسهب في تفسير ميكانيكيات الفعل المؤسسي البرجوازي، بالارقام والنصوص القانونية والوثائق. لكنها تمانع القلم الذي لا يكتفي بمشهديات الواقع، أو كشف النقاب والاستقصاء عما خفي من أساريره. هي تمانع القلم الذي لا يكتفي بتحدي جاه السلطة واحتكارها لمعرفة الوقائع والاحداث، كما تفعل الصحافة الاستقصائية الصفراء. هي تمانع ذاك القلم الذي يشرع في انتزاع معالم المشهدية عُنصراً عُنصرا، ويغوص في مخاض إعادة ترتيبها ضمن عملية حياكة يكون هاجسها الأول والوحيد، إبراز وحشية الطبيعة المُغرّبة للتناقضات داخل أزمنتنا المُتقاطعة. هي تمانع وتعادي القلم المشتبك.
تُعالج الأقلام المُشتبكةُ الواقعَ بإخراج التباينات والتناحرات والنزاعات من مواقعها اللامرئية التي تولد ثقافة التطبيع مع الاستغلال، فتعيدها الى حيز المرئي. هذا هو العنف الذي تتبناه الأقلام المشتبكة نهجاً لإعادة إخراج حيواتنا أمام أعيننا، فبعنف أقلامنا تتوضح حقيقة الإرهاب الذي يستبطن سيرورة الأيام. تهاب أنظمة العار البرجوازي جموع الفدائيين الذين يضربون حجارة هذا الواقع بين أقلامهم ليستخلصوا منها الحقيقة – حقيقة التناقضات التي لا تكتفي بإعادة هندسة سردياتها عن تاريخ اليومي وثقافة المجهول، بل تنتزع من كنف الاضطراب والتشرذم عصباويةً، تنحت من الغضب بيانَ تحررٍ ينتظم بوجه صيرورة التناقضات اللامتناهية.
لم يخف النظام الأردني عُصبة التحرر في الأربعينات لأنها كشفت النقاب عن تبعية سياساته و"فساده"، بل هابها لأنها فكّكت بناءاته التكوينية. لم تخف الرأسمالية الأوروبية عصبة غينيا بيساو التحررية في الخمسينات لأنها وعّت أطفال إفريقيا على آليات الرقابة والتعذيب في البناءات الرأسمالية العنصرية، بل هابتها لأنها كانت تحرّضهم للثأر على الاستغلال الذي يحكم حيوات آباءهم العمال والمزارعين على أرضهم الافريقية المستعمرة. لم تخف السلطات اللبنانية مركز الأبحاث الفلسطيني - الذي عبّدت للصهاينة الطريقَ لنهبه عام 1982 - لأنه كان ينتج مقالات معارضة لسياساتها، بل هابته لأنه نظّم الفدائيين والكتاب كتفا بكتف، ليشحذوا مشهديات المسرح اللبناني محوِّلين طقس القراءة في لبنان من عملية نقل وأرشفة ونقد للأحداث، الى عملية إعداد وجداني للإعلان عن النفير.
دخلتتلك الهيئات في مخاض انتزاع الحقيقة من الواقع... والمعنى من الحقيقة. كان منطق ونهج تلك الهيئات الاعلامية التحررية، نهجاً طبقياً جماهيرياً، ينادي كل عنصر من عناصر الجمع أن: حلّل حرّض تنظّم.
هكذا كان إعلامهم - إعلامًا نقيض.
الإعلام النقيض يتّسم بعنصرين تكوينيين رئيسيين وهما: أ- عنصر الاشتباك المبني على أساس قراءة سياسية ب - عنصر التحريض المبني على أُسُس تفكيكية تسطفّ على نحو يبين التناقضات التي يكتنفها الواقع. ادراكنا للتناقضات هو الذي يموضعنا ضمن صراعات الواقع الرأسمالي، وهو الذي يرشد تعريفنا لوجودنا وقضايانا. لذلك نقول إن الإعلام الفدائي أو المشتبك يقوم على أساس أيديولوجيّ وبنية رفاقية منظمة.
في تشرين 2019 دخلت جماهير العمال على الأرض اللبنانية في غمار مواجهة ضروس ضد الطبقة البرجوازية الحاكمة، وبالأخص ضد أعتى عمادَين للدولة اللبنانية الحديثة وهُما: القطاع المصرفي والآلة الأمنية العسكرية. ومع استعار معالم هذا الالتحام، توسّع فضاء ما اسطُلح ويُسطَلح عليه بالـ "الإعلام البديل".وكان لهذه اللفظة - شأنها شأن الكثير من الألفاظ النخبوية التي تقودها الثلّة الأكاديمية في البلاد - أن استلبت الفروقات الجوهرية بين المنابر الصاعدة. إن أنماط الاحتواء اللغوي تفرغ مضامين الفعل المعرفي من أبعاده السياسية. لهذا نقول، إن ثمة فجوة في بنية ما يسمى بالإعلام البديل، ذاك الذي يتبنى ويعيد إنتاج ثلاث مقاربات مغالطة للإعلام "الحر". نُفصّل باقتضاب المغالطات:
أولا: إن بنية الإعلام البديل اليوم تزعم أن حرية الإعلام واستقلاليته تكمنان في مبدأ الحياد ونقل المشهد "كما هو". إن هذه المقاربة تساهم في إجهاض المكامن الثورية في الغضب الشعبي، محوِّلةً إياه إلى سلسلة من الهبّات والـ"أحداث" المتناثرة التي لا يجمعها سوى البنية الفوقية للتطورات السياسية. في حين أن الإعلام الفدائي يدأب دوماً على تفكيك المشهديات الجماهيرية، من خلال الانطلاق من موقعه بين أوساط الطبقة العاملة، ومن البنى الاجتماعية الاقتصادية التي تتحدّد ضمنها (ورغماً عنها) الحركية الجماهيرية وآفاقها. الإعلام الفدائي يشْرع بعملية التفكيك/التحليل المؤدلج هذه، من خلال الاشتباك والتناحر مع صفوف الطبقة العاملة على الأرض، فبالنسبة لهذا النهج المشتبك لا ينتهي الإعلام مع عملية نقل الخبر، بل يبدأ منه نحو فعل تحليلي توجيهي ممنهج لا ينحاز إلى أوجاع الناس، بل إلى تنظيم استراتيجيات لعملية التحرر من المنتظمات التي تُعيد انتاج تلك الأوجاع. هنا يظهر الإرث الماركسي جليّ المعالم ليذكرنا، أن التحريض ليس إلا عملية بلورة لذروة الغضب الشعبي العارم ونقلها من فضاءات التعبير المحض عن "الذات الجماهيرية" نحو عملية التجذير والتنظيم. تتمّ هذه العملية عبر تبني موقع النقيض لا المعارض ولا "المُعَرّي" لعيوب النُظُم الحاكمة. التحريض هو إخراج الحركة الشعبية من آنياتها المطلبيّة الضيّقة، ومن هنا نتكلم عن الإنزلاقة الثانية:
يفترض الإعلام البديل أن الإشكالية الشعبية/الجماهيرية الوحيدة تكمن في "جهل" الناس أو في "شحّ المعلومات"، التي - وفي حال تم نشرها في الوسط العام - لها أن تبلور "وعي" الشعب تلقائيا محفزةً إياه للدفاع عن "حقوقه". هكذا يتخذ الإعلام البديل لنفسه موقع الجهة التوعوية. ان هذا الزعم يفترض أن حركة الشارع فعل ميكانيكي التكوين وأحاديّ الوجهة، وهذا تسخيف مهين لتاريخ الوعي الشعبي الذي هو في الحقيقة وعي طبقيّ – وعي للصراع الكائن بين وضعيات مُتناقضة من العلاقات الإستغلالية، التي تحكم صيرورة الدولة الرأسمالية المعاصرة كما رأينا في قصص من سبقونا من فدائيي جبال عمّان. لذلك فإن التوعية بحد ذاتها لا تكفي، بل وأحياناً لا أثر تقدمي لها دون رؤية شاملة لمنابع الاستغلال، وهنا تتراءى لنا ضرورة التفكيك المؤدلج للحدث الشعبي أو السياسي بالمجمل من جهة، وللسردية التاريخية وعمليات إستنهاضها وربطها ببنى الحاضر من جهة أخرى. هكذا يُبنى الحسّ الطبقي نحو الوعي التحرري الثوري الأشمل.
بتجاهل هذه الصيرورة المركبة للوعي الشعبي تصبح الثورة والحركة الشعبية والإحتجاج والغضب مجرد حلقات مستفحلة من الإستياء الجماعي، ويصبح الخبر بحد ذاته ركيزة للحقيقة الكائنة ضمن الشارع، وتُخلق أكاذيب مثل "خطاب الشارع" و"مزاج الشارع" و"قرار الشارع"، ويصبح كل ما يُقال أمام العدسات مرجعية "لدراسة" الـ"إرادة الشعبية". يُنتج تراكم التمييع الخطابي هذا عملية احتواء لأبعاد تطور الخطاب والتطبيع مع فكرة أن الـ "ثورة" هي سلسلة من ردود الأفعال الشعبية التي تشتد وتخور مع تتابع الأزمات، وهذا التصور يشرعن للخطاب اليميني المعارض ركوب موجة الإحتجاجات المطلبية واختراقها بمسميات ومفاهيم "الإعلام البديل" المميعة، حيث الخلاص الفردي المُعلّب ضمن البُنى الدستورية القائمة. إن هذا النهج التجريدي يضع "الإعلام البديل" في موقع مؤازر لخطاب الثورة المضادة.
أما بالسبة للإعلام الفدائي فالواقع ليس رهينة أحداثه، بل هو خُلاصةُ مسيرة تتقلب وتتاتبع ضمن جدلية ملحميّة مع اللغة التي تواكبها. أما معضلة نقل الخبر فتؤدي بنا الى الإنزلاقة الثلاثة:
التسليع الإعلامي. في السوق الإعلامي النيوليبرالي يصبح الخبر والخطاب سلعةً تُحددُ ماهية التغطية ومدتها ونمط معالجتها. وخلافاً لذاك النهج التسليعي، فإن الإعلام النقيض يعي موقعه ضمن ترسانة الصراع الطبقي. لم يبدأ هذا النهج في جبل عماّن، ولم ينتهي في أكبر عملية سطو على مركز أبحاث الثورة الفلسطينية في بيروت. تزداد معالم المعركة التي تشنها الدولة الرأسمالية بصيغتها المؤمولة وبأيديولوجياتها القومية تعقيدًا. أن عتيّ المرحلة يؤكد ضرورة الشروع بعملية تدشين معالم الاشتباك التحرري، من خلال التركيز على الأبعاد الأممية للصراع الطبقي، التي تقضّ مضاجع قومية الدولة النيوليبرالية.
لا يمكن ان نسمح لملاجئ عصبة التحرر ان تُداهَم مرتين، لا يمكن ان نعود في غضبنا الى صفر زمانه كل مرة تشتد فيها قبضة النيوليبالية على أعناقنا. لا يُمكن ان نسمح للغتنا الإعلامية أن تُستوطن بعقيدة الإعلام المسلع. علينا ان نمضي على خطى اللإعلام الفدائي التحرري النقيض – وأن نمضي على نهج طبقي جماهيري، ينادي كل عنصر من عناصر الجمع أن: حلّل حرّض تنظّم.
* شيوعية فلسطينية من بيروت