ان تجربة بوليفيا تبعث على الاعجاب للمتتبعين، تعكس مقدار التنظيم الجماهيري لرصّ الصفوف في مواجهة الامبريالية، حتى لو في إطار الدولة البرجوازية وبالأساليب الشرعية البرلمانية، على أية حال أحسن من ان تكون غير منظم جماهيرياً وخطابك يكاد يكون منعدماً ومعاركك دونكيشوتية، تنتهي الى صبّ جام غضبك على ضعف الوعي وسط الجمهور وسذاجته. مع العلم ان هذه المهمة ملقاة على عاتق كل من ينشد التغيير، ان وعي الجماهير بعدوها وواقع النهب الممارس عليها يأتي في أولويات مسلسل التغيير حتى لون كان هذا في عباءة اصلاحية، المهم التقدم خطوة للأمام تكتيكياً خير من السلبية التي يترتب عنها الابتعاد اكثر عن الاهداف الاستراتيجية، لان التاريخ لا يقاس بالسنوات بل بالعقود التي تتمرس فيها الجماهير وتثري مسيرتها النضالية بالبطولات وتصلب عودها بدل تفسخها الفكري الذي يجعلها سهلة الانقياد وراء الصراعات الهامشية ( أحداث فرنسا الاخيرة) والنتيجة ردود فعل وجدانية تغذي خطاب اليمين المتطرف وتزكيه، يجب ان نستلهم الدروس من الامم بكل تواضع في سبيل النهوض بواقع مجتمعاتنا. في بداية الالفية عمّ في امريكا اللاتينية موجة من الاحتجاجات ضدّ الشركات الاجنبية المحتكرة للثروات بلدانهم والتي بسببها فقدوا سيادتهم الوطنية (فينزويلا، بوليفيا، شيلي ..) توجت هذه الاحتجاجات بانتخاب قيادات اشتراكية استطاعت كسب تأييد قاعدة عريضة من الجمهور، في العام 2005 فاز ايفو موراليس، زعيم حركة الفلاحين، بنسبة 51 في المئة وكان مدعوماً من قبل "التنسيقية الوطنية من أجل التغيير" (تحالف يضم حركات اجتماعية، خاصة الحركات الفلاحية، والمثقفين ومجالس الاحياء وجمعيات نسائية قروية) الى جانب تأييد المركزية النقابية. قرّر على رأس المهام الاولية تأميم قطاع النفط والغاز، واعلان جمعية تأسيسية للدستور الجديد. نحن نعلم بأن الاقتراع لا يمنح السلطة بشكل مطلق، وبأن البناء الاشتراكي يقتضي تحطيم جهاز الدولة الطبقي وبناء على انقاضه دولة بروليتارية تمارس ديكتاتوريتها على الاقلية البرجوازية المتربصة للعودة الى الرأسمالية، وتجربة سلفادور أليندي خير مثال على هذا الامر، لكن من الخطأ الاعتقاد بعدم جدواه بشكل قطعي ويمكن ان يسهم في تدبير مرحلة ما، فالمتأمل في الواقع السياسي في المغرب مثلا يجد ألوان سياسية عديدة تهيمن على الساحة السياسية وتسوق للخطاب ديماغوجي لم يعد ينطلي حتى على الفئات غير المتعلمة وبالمقابل غياب شبه تام للفعل السياسي الجاد ولو في حدوده الدنيا، في تقديري هذا راجع الى تقاعس واستخفاف مثقفينا الثوريين جدا بالحركات الاحتجاجية بدعوى عدم ملائمتها للطريق الجذري ممّا يؤدي الى مجرد الاكتفاء بمتابعة الوضع من بعيد دون مساهمة ولو في حدود اعلان الدعم المبدئي، وأستغرب للمجموعة من "الثوريين" يهاجمون احتجاجات الاساتذة المتعاقدين والنقابات، دون استحضار حجم الهجوم المكثف على الخدمات العمومية التي يفرض علينا مواجهته والتصدي له بكل السبل أولهم وحدة الصف، لكن إذا ما أخدنا الامر بالسهولة التي يتصور البعض من خلال الاعلان أن السبيل الى التحرر الطبقي هو عبر دكّ البنية القائمة بضربة واحدة، يعتقد بهذا الاعلان أنه شيوعي جذري، لكنه في حقيقة الامر ما يعلنه لا يتعدى ان يكون مجرد ترديد كلامي دون أثر مادي في الواقع، ويصبح شيوعي يائس لا يعجبه أي شيء، وينتهي به الحال وسط هذه الفوضى الى النكوص، والتخلي تدريجياً عن آماله وأفكاره نتيجة إغراقه في اليومي والحياة الرتيبة.
انّ الممارسة السياسية كأحد حقول الصراع الطبقي تسعى الى انتزاع المكاسب بسبل حتى وان كانت تستعين بالأساليب البرجوازية اذا اقتضى الامر، والمكسب الاكثر أهمية هنا هو الحضور في المشهد السياسي وتصبح موضع اهتمام فئة عريضة من الجماهير، هذا نسبيا يفتح لك باب البروز والتباري حول الرؤى والتصورات حول البديل السياسي والاقتصادي، بدل الغياب التام عن الشارع السياسي والسقوط في النخبوية الضيقة في تناول الموضوعات السياسية والاقتصادية المفترض اننا نحملها على انها ما ننشد تحقيقه، ممكن للبعض ان يقول بأن هذا الكلام أفقه برجوازي، ولن يوصل الى شيء، النتيجة هنا الانزواء في اقصى مكان حيث يسخف ويزدري كل الحركات الاحتجاجية، ان الممارسة السياسية تتطلب التحلي بمرونة وتبصر للمسلسل الصراع، ان أنجلز وماركس لم يكونوا يعترضون على الحزب الاشتراكي الالماني أيام ببل ولايبنخت في المشاركة السياسية ، وحتى اعلان اندماج حزب الشعب مع الحزب الاشتراكي في ألمانيا كان في برنامج الحزبين نقطة تقضي بأن كل الطبقات كتلة رجعية بإزاء الطبقة العاملة، جرى الرد على هذه الأخيرة في "نقد برنامج غوتا" حين وصف ماركس هذه النزعة بالانعزالية، ولينين السياسي المحترف الذي يشهد له الاعداء قبل الانصار، خصّص كراساً تناول فيه السياسة كممارسة ليس خطية معدة مسبقا يكفي الامتثال لها للظفر بالسلطة، وجه هذا الكراس أساسا لشيوعيي الغرب (الان المعني به هم شيوعيونا) تحت عنوان "مرض اليسار الطفولي في الشيوعية" يبدأ في استعراض السيرورة الثورية في روسيا من تفان في الصراع على أكثر من صعيد وبتظافر الجهود كل من موقعه للسير بالحركة الى الامام، ما جعل الجماهير أكثر تمرساً وصلابةً ويأتي بعد ذلك للافتتاح الفصول الاخرى بأسئلة جوهرية من قبيل "هل ينبغي ان يعمل الثوريون في النقابات الرجعية؟" ويجيب بأن من الخطأ تكتيكياً الاعراض عن الاشتغال داخلها بدعوى رجعيتها، لان عقد الامل على تنظيم نقابي ثوري خالص فكرة سخيفة وغير عملية لذلك وجب العمل داخل كل النقابات حتى لو اقتضى الامر اللجوء للحيلة والطرق السرية للتسرب اليها، في سؤال اخر يقول "هل يجب الاشتراك في البرلمانات البرجوازية؟" يبدأ هذا الفصل بمقطع منسوب لليساريين الالمان يرفضون فيه طريق النضال البرلمانية التي ولّى عهدها تاريخياً وسياسياً كما يزعمون، ويصف لينين هذا القول بالعجرفة وبأنه مدعاة للضحك وانتهى الى ان العبرة بمقدار استعداد الجماهير الكادحة الغفيرة (استعدادا فكريا وسياسيا وعمليا) للتحول الجذري ،ان الصراع جدلي، يتقدم ويتراجع باستمرار، ولابد من تحصيل المكاسب ( المكسب الاهم هو الوعي الطبقي) ولو على جرعات في طريق التحرير وتهييئ الوضع الثوري، فالممارسة السياسية هي في الاخير فعل تراكمي يستوجب النفس الطويل لان تاريخ الامم غير تاريخ الافراد الذين يغرهم قطف ثمار المجد في أسرع وقت، وكثيراً ما كان لينين يردّد بأهمية العمل اليومي البسيط في عملية التراكم.
*أستاذ مادة الفلسفة في الثانوية العامة في المغرب