بدايات الانهيار وموجبات التغيير السياسي

منذ أن قرّر الحزب الشيوعي النزول إلى الشارع بشكل كثيف بدءاً من 16 كانون الأول 2018، حدّد لنفسه شعاراً أساسيّاً هو الآتي: " إلى الشارع في سبيل الإنقاذ" بمواجهة سياسات الانهيار. وتوالت بعد هذا التاريخ، وتحت هذا الشعار بالذات، سلسلة من التحركات والتظاهرات الشعبية غير المسبوقة على امتداد النصف الأول من عام 2019، بمبادرة من الحزب أو بمشاركة واسعة منه. وكان الحزب يدرك آنذاك الحاجة الماسّة إلى تجميع قوى الاعتراض الشعبي بتلاوينها المتنوّعة للضغط على النواة الأساسية للتحالف الحاكم من أجل فرض إجراءات إنقاذية ذات طابع استثنائي تتلافى سيناريو الانهيار، وتكون من حيث جدّيتها وشمولها في مستوى الخطورة الداهمة للأزمة التي يتحمّل مسؤوليتها هذا التحالف وسياساته الاقتصادية والمالية والنقدية.

كما كان الحزب يدرك أن عامل الوقت بات يلعب دوراً حاسماً في تسريع سيناريو الانهيار أو في إبعاد شبحه في المدى المنظور على الأقل، مع ما لذلك من تأثير على المصالح الحيوية للمواطنين، وأن الضغط الشعبي يجب أن يتكثّف بالتالي للحؤول دون استمرار القوى الحاكمة في تجاهل أهمية هذا العامل والتلهّي في التجاذبات والخلافات الفوقية والزبائنية بين أطرافها كما حصل غير مرّة في ظلّ الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها.

ولكن عشرة أشهر انقضت على بدء التحركات الشعبية تحت شعار "الانقاذ"، وليس هناك من طلائع لعملية "إنقاذ" إلا في تكرار التصريحات النمطية والجوفاء من قِبل قادة التحالف الحاكم وبياناته المضلِّلة!! ووسط عجز وفساد وتحاصص وعدم أهلية القوى المتنفّذة في السلطة، ازداد تدهور كل المؤشرات الاقتصادية والمالية الأساسية في هذه الفترة إلى حدّ بلوغها مشارف الخطوط الحمراء، في وقت كانت الحكومة قد تعهّدت أمام "الأسرة الدولية" في مؤتمر سيدر (آذار 2018) بالعمل على دفع هذه المؤشرات في اتجاه إيجابي معاكس. غير أن مجريات الأمور ذهبت منذ ربيع عام 2018 في اتجاه نقيض: معدلات النمو الاقتصادي باتت شبه معدومة (عام 2019)، لا بل حتّى سلبية، الأمر الذي دفع ويدفع تدهور الأحوال المعيشية ومعدلات البطالة والافقار نحو مستويات قياسية جديدة؛ النفقات العامة الجارية، أي غير المنتجة، حطّمت عام 2018 كل الأرقام السابقة وتسبّبت بأعلى نسبة عجز في تاريخ البلاد الحديث (11.5% من الناتج المحلي)، ولا يبدو أن ثمّة من يعمل أو يقدر فعلاُ – من داخل الحكم - على ضبطها بالرغم من الوعود الورديّة التي حملتها أرقام موازنة عام 2019 (على الورق)؛ حجم الدين العام المعلن والفعلي واصل منحاه الصاعد من دون أي ارتداد، مترافقاً مع ارتفاع معدلات الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة منذ التسعينيات، مع ما يعنيه هذا الارتفاع من تبعات سلبية على تكاليف خدمة الدين العام التي باتت تقتطع أكثر من 35% من إجمالي الإنفاق العام؛ شبكات المرافق والخدمات العامة الأساسية، لا سيما قطاع الكهرباء، استمرّت عرضة للتردّي والإهمال والتعطيل، ارتباطاً بمصالح زبائنية مشبوهة تخصّ حلقة ضيّقة من داخل السلطة وخارجها، ممّا انعكس سلباً على فرص النهوض بالاقتصاد وعلى الأوضاع الاجتماعية عموماً؛ إلى غير ذلك من مؤشرات...

ولكن الأخطر من كل ذلك، أن جميع حسابات لبنان مع الخارج – والتي بموجبها يتمكّن لبنان من الحصول على حاجته من الدولار أو لا يتمكّن– قد سجّلت مؤخّراً، بالتزامن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية الداخلية، عجوزات مقلقة وغير مسبوقة: بدءاً من العجز التجاري حيث لم تعد الصادرات السلعية تغطّي أكثر من 15% من فاتورة الاستيراد، مروراً بعجز ميزان المدفوعات الذي تجاوز عتبة الخمسة مليارات دولار في النصف الأول من العام الحالي، وانتهاءً بعجز الحساب الجاري الذي بات يقترب من نحو ربع الناتج المحلي. وإذ فشلت الهندسات المالية في الحدّ من حجم العجوزات في الحسابات الخارجية، فإن هذه الأخيرة قد انعكست بشكل مباشر في حقلين أساسيين يشكّلان راهناً مصدر قلق رئيسي لعموم اللبنانيين: الأول، التراجع العام في قيمة احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية (لا سيّما الاحتياط القابل للاستخدام)، وهو الأمر الذي يضعف قدرة البنك المركزي على التدخل في سوق القطع دفاعاً عن سياسة التثبيت النقدي التي يتّبعها منذ أواسط التسعينيات، أي تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي؛ والثاني، التقلّص النسبي في قاعدة الودائع المصرفية المتاحة لدى الجهاز المصرفي والتي كانت تتغذّى في ما مضى من قنوات أساسية تتدفق عبرها العملات الأجنبية إلى لبنان، ولكن هذه القنوات اتجهت في معظمها نحو حالة من الانقباض والشحّ الصريحين منذ عام 2011. والمقصود بهذه القنوات بالتحديد: صادرات لبنان من الخدمات (سياحة واصطياف وتعليم وصحة وخدمات مالية... إلخ)، وتدفقات "الاستثمارات الأجنبية المباشرة" التي يرسلها في الغالب الرعايا العرب لشراء موجودات عقارية في لبنان، وتدفقات القروض الأجنبية الميسّرة والأمانات الخليجية عبر مؤتمرات باريس و"شقيقاتها"، وتحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج الذين تحوّلوا إلى "السلعة" شبه الوحيدة القابلة للتصدير بسبب تقويض سياسات الحكم لقطاعات الانتاج الأساسية. وفي المحصلة النهائية، فإن هذا التراجع النسبي في قاعدة الودائع المصرفية قد قلّص إلى حدّ كبير من قدرة الدولة على مواصلة الاستعانة بالقطاع المصرفي من دون حساب، كما كانت تفعل في السابق، لتأمين تمويل عجزها المالي المتزايد. ومع هذا الخلل بين العرض والطلب على العملة الأميركية في السوق المحلية، بدأ الشعور العام يتزايد سواء في الدولة أم في القطاع الخاص بأن البلد يتجه بثبات نحو الطريق المسدود الذي يفضي إلى الانهيار.

إن مجمل هذه الوقائع والتطورات المؤثّرة كانت تتوالى ويتعاظم أثرها على مصير البلد فيما تواصل أطراف الحكم، وبخاصة المتنفّذة منها، انشغالها الأرعن بالتنافس المتبادل على تحاصص وتقاسم المصالح الزبائنية الخاصة والسطو على الملك العام بأشكال معلنة ومستترة، كتعويض عمّا خسرته مؤخّراً من الهبات والمساعدات التي يقدّمها الراعي الأجنبي. ووسط هذه المناكفات، تجد تلك الأطراف نفسها عاجزة في الظرف الراهن عن مواجهة ما يمكن وصفه بطلائع بدايات مرحلة الانهيار التي باتت مؤشراتها تبرز وتتعاضد من خلال: الشحّ في الكميات المتاحة من العملات الصعبة كنتيجة لانقباض القنوات الخارجية وتحوّل المودعين من الليرة إلى الدولار وخروج ودائع بالعملات الأجنبية إلى الخارج؛ نشوء أزمة سعر صرف الدولار في بلد تصل نسبة الدولرة في اقتصاده إلى نحو70%، مع قيام سوقين للدولار أحدهما رسمي (مصرف لبنان) والثاني موازي (مكاتب الصيرفة) مع توقع ازدياد فوارق الأسعار بين هذين السوقين بالرغم من الاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان حديثاً لتأمين استقرار أسعار المحروقات والدواء والطحين؛ تعاقب التلويح بالاضرابات في القطاعات المعنية باستيراد السلع من الخارج بالدولار وبيعها في الأسواق المحلية بالليرة اللبنانية؛ ارتفاع التوقعات بانعكاس أزمة سعر صرف الليرة زيادة في معدلات التضخم وعموم أسعار الاستهلاك في البلد كلما اتسعت الهوامش بين السوقين الرسمي والموازي للدولار تجاه الليرة اللبنانية؛ تعاظم المخاطر المحدقة بمصير الاحتياط المتراكم في فرع نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفي مجمل نظم التقاعد العامة وشبه العامة الأخرى؛ هذا بالطبع إلى جانب ازدياد تأثيرات القيود والضغوط والعقوبات التي تمارسها الإدارة الأميركية على لبنان تحت حجّة التضييق على مصادر تمويل حزب الله، مع الإشارة إلى تزامن هذه الضغوط مع تهديدات وكالات التصنيف الدولية ومع الاملاءات الصادرة عن الدول المعنية بمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر سيدر، وعلى رأسها الدولة الفرنسية.

لقد كان الحزب الشيوعي أوّل وأكثر من شخّص وحلّل وحذّر من التداعيات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخطيرة التي يقود إليها التلازم الفجّ بين عجز المالية العامة والعجوزات الخارجية، محمّلاً تحالف القوى الحاكمة مسؤوليّة التفاقم الاستثنائي في حدّة الأزمة، مع إدراكه أنّ جذور هذه الأخيرة ليست طارئة بل تعود إلى ترسّخ النمط الاقتصادي التبعي الريعي الذي أُرسيَت قواعده بعد الحرب الأهليّة. والحزب لم يكتفِ بالتحليل والتشخيص وعقد المؤتمرات الصحافية والندوات فقط، بل بادر إلى التحرّك في الشارع ونظّم مع أطياف من الحراك الشعبي والمدني العديد من التظاهرات والتحركات الجماهيرية الحاشدة لهذا الغرض. ويعلن الحزب في هذا الإطار وبصوت عالٍ عن اتجاهه لتصعيد تحرّكه الشعبي في مواكبة انتقال الأزمة إلى مرحلة بدايات الانهيار وتحوّلها التدريجي إلى أزمة شبه عامة، حيث لا تعود المعالجات الانقاذية المبعثرة والموضعية كافية لإبعاد سيناريو الانهيار. وشعار الحزب في هذا التحرّك لن يكون كالذي سبقه – أي " إلى الشارع في سبيل الإنقاذ" - بل سيكون " إلى الشارع من أجل تغيير قواعد التمثيل السياسي" وبالتالي تغيير النظام السياسي الطائفي الذي شكّل ويشكّل المصدر الأول لإنتاج الأزمات.