ديكتاتورية المصارف تُضرَب بفأس المنتفضين

ودّع اللبنانيون عام 2019، واستقبلوا العام الجديد في ساحات الاعتصام، مؤكّدين مواصلة "انتفاضة 17 أكتوبر" لليوم السابع والسبعين على التوالي وسط إصرار ومثابرة لتصعيد الاحتجاجات الشعبية على المصارف والمؤسسات العامة والسلطة السياسية من جهة، ومماطلة ممنهجة من قبل الأخيرة وتجاهلها المعتمد لمطالب الشارع من جهة أخرى.


وها هي أزمة التأليف الحكومي تنتقل إلى العام 2020، بعدما كلّف رئيس الجمهورية ميشال عون، في اليوم الرابع والستين للانتفاضة (19 كانون الأول الماضي)، الوزير السابق د. حسان دياب برئاسة الحكومة في البلاد خلفاً للرئيس المستقيل سعد الحريري، إثر انتهاء الاستشارات النيابية في القصر الجمهوري بـ 69 صوتاً لصالح دياب، و13 صوتاً لنواف سلام، وصوت واحد للدكتورة حليمة قعقور، فيما فضّل 42 نائباً عدم تسمية أحد.

واستقبلت ساحات الحراك في المناطق الرئيس المكلف بالرفض كأسلافه محمد الصفدي وبهيج طبارة وسمير الخطيب. أما سبب هذا الاعتراض فيعود إلى شكل وآلية التكليف، إذ أقدمت قوى السلطة على تكليف دياب من دون أن يجري حتى نقاش برنامجه أو مشروعه، لتؤكد مجدداً أنها لا تزال غير آبهة بمطالب المواطنين، بل الأولوية لمحاصصاتها وحساباتها الخاصة.

بدوره، سارع دياب إلى الالتفاف على مطالب الحراك، إذ بحجة عدم معرفته بمطالب المنتفضين بعد مرور أكثر من ستين يوماً على الاحتجاجات الشعبية، أقدم على الاتصال بعدد من الناشطين وتوجيه دعوة للاجتماع بهم، مقرراً أنهم الممثلون عن الانتفاضة، علّهم يطلعونه عن المعلن للجميع ما عدا السلطة. إلاّ أن هذه المحاولة كان مصيرها مشابهاً لدعوة رئيس الجمهورية بالحوار مع المنتفضين وباءت بالفشل، إذ أعلنت الساحات والناشطون الذين تلقوا طلب دياب عن رفضهم للقاء الاستعراضي والتفاوض احتراماً وانسجاماً مع رغبة الشارع، مشدّدين أن هذا التكليف لا يغيّر موقفهم في الاستمرار بالانتفاضة الشعبية من أجل التغيير الديمقراطي، وإنقاذ الشعب اللبناني والبلد من تبعات الانهيار. ووجّه بعض المنتفضين الدعوة إلى "من يريد التفاوض بالنزول إلى الساحات ليسمع صوتنا، وليعلم إننا باقون وثورتنا مستمرة، حاضرة تراقب وسوف تحاسب"، معلنين أن من سارع للقاء دياب لا يمثل "انتفاضة 17 أكتوبر".

كما أكدوا على إصرارهم بتحقيق مطالب هذه الانتفاضة بالدرجة الأولى؛ عبر تشكيل حكومة وطنية انتقالية من خارج المنظومة السلطوية وذات صلاحيات استثنائية، ولمدة محددة تقوم على برنامج ومهام معينة (إلغاء ما يُسمّى "بالورقة الإصلاحية" - إقرار قانون انتخابات نيابية على أساس النسبية خارج القيد الطائفي، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة على أساسه - استقلالية القضاء - استرجاع الأموال والأملاك العامة المنهوبة ومحاكمة المسؤولين الفاسدين ووضع رؤية اقتصادية...).

"مش دافعين"
هاشتاغ "مش دافعين"، هو وسم أطلقه ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي يدعو اللبنانيين لعدم دفع الفواتير والضرائب لحمل السلطات على الاستماع لمطالب الاحتجاجات التي انطلقت في 17 تشرين الأول الماضي ولم تتوقف حتى الآن.
كما لوّح عدد من الشركات الخاصة باتخاذ إجراءات مماثلة كإقدامها على "العصيان الضريبي" بوجه تعنّت السلطة وسياسات المصارف وتفاقم الوضع الاقتصادي.
أمّا المنتفضون فترجموا وسم "مش دافعين" فعلياً على الأرض باليوم الـ 66 للانتفاضة، عبر تنفيذ وقفات احتجاجية أمام مبنى مؤسسة كهرباء لبنان في بيروت وصيدا، إضافة إلى رش العبارة على أبواب المصارف في عدة مناطق يوم السبت 21 كانون الأول الماضي، للدعوة إلى "الامتناع عن دفع الضرائب والرسوم، والتوقف عن تسديد القروض المصرفية المستحقة، إلى حين استرجاع المال المنهوب والحقوق".

"حرّض على المصرف"
تصاعدت وتيرة الاحتجاجات على المصارف في الأسبوع الماضي، بعد الكشف عن أرقام بعض الأموال الطائلة المهرّبة إلى الخارج، تزامناً مع تردّي الأوضاع الاقتصادية، وتزايد نسبة البطالة بسبب إقفال بعض المؤسسات أو تقليص عدد الموظفين فيها. حيث يواجه البلد أزمة حادة في السيولة بالعملة الأجنبية، تزامناً مع سياسات تقييدية للمصارف اللبنانية على أموال المودعين ورواتب الموظفين منذ أسابيع. ولاسيما إصرارها تطبيق الـ Capital Control بدون قانون وبشكل انتقائي على أصحاب الودائع الصغيرة فقط، عبر تحكّمها بأموال الزبائن وحتى أصحاب الحسابات الصغيرة منهم، بوضع الحد الأسبوعي لسحب النقد الوطني، وامتناعها تسليم المودعين مبالغ تفوق الـ 200 دولار أسبوعياً، وصرف شيكات بخسارة 30 % أو 40 % من قيمتها. يضاف إلى ذلك فقدان الدولارات كلياً في ماكينات الـ ATM، وسط تلاعب في سعر صرف العملة في السوق السوداء مما أفقد الليرة اللبنانية أكثر من ثلث قيمتها.
وبعد ارتفاع صرخات صغار المودعين والموظفين جرّاء إذلالهم في المصارف للحصول على أموالهم أو حتى جزء منها، وانتشارها على مواقع التواصل الاجتماعي وفي نشرات الأخبار. لم نرَ أي مسؤول سياسي تحرّك لصرخة أم على باب المصرف تستجدي الموظفين إعطاءها مالها "ولادي جوعانين، بدي طعميهم"، أو أب يريد ماله لدفع مستلزمات إعالة بيته، أو شاب أحضر معه بطاقة حجز السفر دون ما جدوى... وفي عكار ظهر مواطنٌ في مقطع فيديو داخل البنك حاملاً فأساً، لاضطراره بعد نفاذ صبره اللجوء إلى هذه الطريقة وتهديد الموظفين فيه، وراح يصرخ "بدّي مصرياتي.. بدّي مصرياتي"، ولحسن الحظ تواجد عدد من المواطنين حوله ومنعوه من استخدامها. إضافة إلى الكثير من الحوادث التي وثّقت وجع الناس وإذلالهم، ولن تكون آخرها حادثة بلوم بنك فرع طرابلس يوم الثلاثاء 24 كانون الأول الماضي بعد رفض الموظف إعطاء أحد المواطنين أمواله، فاستعان بأشخاص في الداخل تضامنوا معه وبعد حصول تلاسن بينهم وبين الموظفين، تم الاعتداء على الزبائن، وعندما نشر الخبر سارعت مجموعة من المنتفضين في الحراك إلى المصرف ومساندة الزبائن سلمياً، فوعد الزبون بتقاضي أمواله يوم الخميس، وهذا لم يحصل بالفعل، إذ أبلغ أن عليه التوجه للفرع الرئيسي في بيروت للحصول على حقه.

هذه الحوادث، حمّلت الثوار في الساحات مسؤولية تجاه الزبائن لمساعدتهم بالحصول على أموالهم المُصادرة، فكثّفوا الاحتجاجات شبه اليومية على المصارف، وأبرزها تنفيذ وقفات احتجاجية يوم الخميس 26 كانون الأول الماضي، أمام فروع مصرف لبنان في العديد من المناطق (بيروت، عاليه، زحلة، النبطية، صور، صيدا، طرابلس والهرمل)، اعتراضاً على السياسات المصرفية. وتزامنت أيضاً بتنفيذ اعتصامٍ أمام جمعية المصارف في وسط بيروت، احتجاجاً لما وصلت إليه الأمور بعد أسابيع من السياسات غير المدروسة للمصارف والتي تحجز على أموال المودعين بشكل يخالف حرية المودع بسحب أمواله والتصرّف بها.
ودعا المحتجون إلى البدء بالعصيان المدني وعدم دفع أموال القروض تحديداً القروض الصغيرة، قروض السيارات والشخصية، مؤكدين على مواصلة حراكهم من أجل تحقيق المطالب.
كما تصاعدت وتيرة الاحتجاجات الشعبية على المصارف، بعد اجتماع استثنائي في مجلس النواب برئاسة رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان، وحضور حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، ووزير المالية في حكومة تصريف الأعمال علي حسن خليل، ورئيس جمعية المصارف سليم صفير. أما ردّ رياض سلامة على سؤال حول السعر الذي يمكن أن يصل إليه الدولار الأميركي بـ "ما حدا بيعرف" فقد أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي وغضب اللبنانيين، ليسارع سلامة للالتفاف على الموضوع أنه قصد السعر لدى محلات الصيرفة.


"الشيوعي" يواجه المصارف
"عم بنكتب بكل كتاب، تسلم إيدك علي شعيب"، بهذا الهتاف واعتصامهم داخل مصرفBlcفي منطقة الحمرا ببيروت يوم السبت 28 كانون الأول الماضي، أعاد قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني، ذاكرة اللبنانيين إلى 46 عاماً، عندما نفذّ علي شعيب ومجموعته في 18 تشرين الأول 1973 اقتحاماً على مصرف "بنك أوف أميركا" في وسط بيروت لتحرير أموال الناس ومواجهة حكم المصارف، ليستشهد علي شعيب (سعيد) في اليوم الثاني عن عمر ناهز الـ 27 عاماً. وكتب على ضريحه "نحن الحياة وتاريخ الحياة وهم في كل ثانية من عمرهم عدمُ/ شاؤوا لنا أن نرى فيهم مصائرنا / لكنهم خسئوا.... إنّا مصيرهم"، وهو بيتٌ من الأبيات الشعرية التي وجدت في ورقة مكتوبة في جيبه يوم استشهاده. 

 

ففي اليوم الثالث والسبعين لانتفاضة 17 تشرين الأول، وعند تنفيذ وقفة احتجاجية أمام مصرف لبنان المركزي، توجّهت مجموعة من الشابات والشباب "الشيوعي" ومجموعة أخرى، إلى مصرف BLC، إثر إبلاغهم امتناع المصرف عن تسليم رواتب موظفين وودائع لصغار المودعين، مطالبين المصارف بفكّ حجز أموال المودعين الصغار، كونه يجري خلافاً للقانون. واعتصموا داخله، مردّدين هتافات ضدّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والسياسات النقدية، ومنها "يا سلامة بدنا نحاسب، شعب بلادي كلو غاضب"، "يسقط يسقط حكم المصرف"، و"الوطن للعمال تسقط سلطة رأس المال"، مما اضطّر إدارة المصرف إلى التراجع عن قرارها وتمّ تسليم جميع الزبائن الموجودين أموالهم وودائعهم.


وفيما أكّد المعتصمون "عزمهم متابعة النضال ضدّ سلطة المصارف التي تشكل اليوم رأس الحربة في المعركة الطبقية التي يخوضها الشعب اللبناني منذ 17 تشرين الأول"، حمّلوا المسؤولية إلى جمعية المصارف التي تضمّ ممثلين عن رؤساء مجالس إدارات المصارف، لا سيما في ما يتعلّق بحجز أموال المواطنين.
ورأى قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني في بيانه أن "ما حدث يؤكّد الممارسات الكاذبة للمصارف، إذ ادّعت الإدارة عدم توافر الدولار داخل الفرع، الأمر الذي تبيّن عدم صحته إثر الضغط الشعبي الذي مورس، وانتهى بتسليم جميع الزبائن الحاضرين أموالهم وبالدولار".
وختم: "الشيوعيون لن يسمحوا للمصارف بعد اليوم بالسطو على أموال الناس ورواتبهم. وندعو كل المتضررين إلى الانتظام في مواجهة المصارف والسلطة السياسية المتواطئة على مصالح الناس".

وعن دور قطاع الشباب والطلاب في "الشيوعي" بتنفيذ تحركات في مواجهة المصارف، صرّح عضو قيادة القطاع محمد بزيع لـ"النداء" أن احتجاجاتهم بدأت فعلياً قبل "انتفاضة 17 أكتوبر، وأبرزها تنظيم تظاهرة في 13 تشرين الأول الماضي من أمام جمعية المصارف، مروراً بالسراي الحكومي وصولاً إلى مصرف لبنان. وذلك "بغية تحميل ثلاثية المصارف، مصرف لبنان، والسلطة السياسية مسؤوليتها عن الانهيار الذي وصل إليه لبنان بعد ثلاثين سنة من السياسات الاقتصادية المدمرة" (راجع المقالة السابقة: انتفاضة 17 أكتوبر أشعلت الساحات - في العدد 367).
كما أكد "أن التحرك والتصعيد المستمر بوجه المصارف ينطلق من مسؤوليتها عن نهب الطبقات الشعبية في لبنان والخزينة العامة طوال ثلاثين عاماً عن طريق الفوائد الخيالية التي تقاضتها على الدين العام، وكذلك عبر قروض المصارف للأسر التي اضطرت للجوء إليها لتأمين أبسط حقوقها من مسكن ونقل وتعليم واستهلاك. هذا بالإضافة إلى الأرباح التي حققتها المصارف عبر الهندسات المالية منذ 2016 والتي تفوق إثنا عشر مليار دولار".
وأضاف بزيع "مؤخراً أصبح التصعيد بوجه المصارف مدفوعاً كذلك بإجراءاتها العدوانية تجاه الموظفين وصغار المودعين. حيث تعمد إلى احتجاز رواتبهم وودائعهم التي تشكل سبل عيشهم. وهذا مرفوض حتماً، وهو عدوان يجب أن يتوقف فوراً. لذا اعتمدنا تصعيد احتجاجاتنا في هذا السياق، بالدخول إلى فروع المصارف وتلاوة البيانات. ثم انتقلنا بعدها إلى الفروع الرئيسية للمصارف. أما حالياً اعتمدنا الدخول إلى المصارف بهدف تحرير رواتب المنتظرين فيها ومساعدتهم لتحصيل رواتبهم أو سحب جزء من ودائعهم الصغيرة".
وختاماً، أعلن "أن هذه التحركات ستأخذ حتماً منحى تصعيدياً أكثر فأكثر حتى ترتعد الأوليغارشيا وتخضع لإرادة الطبقات الشعبية ومصالحها".