عمال فلسطين بين وباء العنصرية وفيروس الطائفية!

الحادثة الفظيعة التي وقعت مؤخراً حيث ألقى جنود الاحتلال عدداً من العمال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 على حاجزي جبارة بطولكرم وبيت سيرا قرب نابلس، بذريعة الاشتباه بإصابتهم بفيروس كورونا، وتركهم على قارعة الطريق قبل أن تصلهم فرق الإسعاف الفلسطينية. تزامنت مع لغة عنصرية ساقطة تنضح بما فيها من تحويل فزاعة الوباء إلى فوبيا المخيمات إن كان مباشرة بتصريح سياسي أو بكاريكاتير إعلامي.

القهر المتراص للطبقة العاملة الفلسطينية تظهره حوادث رمزية تعكس الواقع المُر، لشكل الاضطهاد المزدوج القومي والطبقي الذي تتعرض له، كونها الطبقة التي تقف ببسالة وتضحية وعطاء، في طليعة النضال الوطني الفلسطيني، وتعكس التطابق الحقيقي بين اللامعيارية والقلق والمرّكب الذي يعانيه الإنسان الفلسطيني والعامل الفلسطيني تحت الاحتلال، أو بفعل الاحتلال وبواقع الاحتلال، كشكل من أشكال القهر المثلث الأبعاد، من وباء العنصرية ووحشية الليبرالية وفيروس الطائفية.
لا تختلف مستويات الحياة رغم تداخل الفضاءات المختلفة، حيث يتحول الاستغلال إلى آلية تتخذ صيغة شبيهه بعملية "القتل التسلسلي" كحالة متتالية، يتم فيها القتل بشكل مُحكم ومتتابع ولثلاثة أشخاص أو أكثر، في حوادث مختلفة. تلحظ التشابه في الحياة الممنوعة، من غيتوات قسرية تثير نقاط ساخنة في خضم الصراع الشامل والواسع والعميق للطبقة العاملة الفلسطينية ومنها:

القوى العاملة الفلسطينية حرمان في الوطن ومنه، تثير النقطة الحرجة والساخنة واقع العمال تحت الاحتلال والتي تتأرجح بين معادلتين عنصريتين بمضمونهما، معادلة المُبعد كإقصاء متعمّد عن شروط الحياة الكريمة واللائقة؛ والمستعبد كضرورة إنتاجية رخيصة ويمكن تسويقها عمليًّاً، وقانونياً، وسياسياً. الاحتلال يعني الابتلاع والنهب والسيطرة. والاتفاقيات جزّأت القضية والشعب والأرض والتي حوّلت الوطن إلى بانتوستانات يتحكّم الاحتلال في بواباتها.
من المؤلم والمؤسف أن يضطر حوالي 127 ألف عامل فلسطيني يومياً غير الذين يعملون من دون تصاريح أو يذهبون للعمل بتصريح تجارة أو ببطاقات مختلفة، يتوجّهون إلى أعمالهم في دولة تحتل أرضهم، يُذلّون على حواجز المحتلين ويتم إهدار كرامتهم يومياً على المعابر، إضافة إلى الاقتطاعات من رواتبهم والتي تصل ثلث الراتب ولا يستفيد منها العمال شيئاً يذكر. أرباب العمل الصهيوني تلقائياً بخصم 2.5 في المئة من أجور العمال الفلسطينيين لصندوق "التعويض عن المرض". حيث أن عملَ الفلسطينيّ هناك، يقتصر على المجالات الخطرة. ثم يلقى على قارعة الطريق!
كما اليد العاملة في غزة بين سندان الحصار ومطرقة رصاص الموت الصهيوني وتعرّض حياتهم للخطر أثناء عملهم بالقرب من المواقع "الإسرائيلية" براً وبحراً. ونتيجة ارتفاع نسبة البطالة يتم دفع اموال طائلة للسماسرة من أجل توفير عمل لهم في الداخل المحتل.
وباء العنصرية الأشد فتكاً وهو الأكثر حداثة، وبين السمسرة والاستغلال، فقد تبين أن العام المنصرم، استولت "إسرائيل" على أكثر من 100 مليون دولار من أموال العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الكيان، لماذا؟ لتطوير وتحديث الحواجز، لاحظ، الحواجز التي ترمز إلى إهانة كرامتهم، والتي ترمز إلى الاغتيال المعنوي والرمزي، لنفسية الإنسان الواقع تحت الاحتلال كما يحدث مع الأسرى في السجون وهذا ما أشار إليه (ميشال فوكو) في "التشامل" وما سماه البعد الحداثوي الخفي للتعذيب. الذي يظهر بالملموس أن الفقر والإقصاء ليسا مفهومين طبقيين فحسب، بل أيضاً مقولتين سياسيتين بإمتياز.

القوى العاملة الفلسطينية، حرمان من الوطن من العمل، انطلاقة من واقع مستجد ومتجدّد، ليس حرمان فقط من العمل إنما من شروط الحياة، وأشدّها قسوة في واقع المجتمع الفلسطيني اللاجئ في لبنان، المستثنى من الحقوق، كلاجئ لا ينطبق عليه حق المواطن اللبناني ولا حتى الأجنبي. ويتحوّل المخيم إلى مكان لفصل قوة عمل اللاجئين في فضاء الاستثناء. ويظل اللاجئ على هامش القانون الذي يجعل السياسة أمراً عضوياً (سياسة عضوية) عبر التحكّم بشروط حياة اللاجئين من خلال أدوات متعدّدة إحصاء ضبط الحركة، التحكّم بظروف عملهم تهدف إلى عقلنة تصرفاتهم.
ضمن نسيج اجتماعي خاص وفي بيئة مهمشة وعلاقة مشحونة مع الغير. يتم تأسيس لثقافة الكراهية التي تعطي تبريراً لذهنية التمييز، وغالياً ما ينظر للاجئين عموماً كعبء اجتماعي واقتصادي وسياسي على الدولة المضيفة. ومع حالة الانغلاق الاقتصادي والاجتماعي تنشأ عقلية "الغيتو" بمحاولة إدارة المجتمع وتنظيم الخسارة بالقدر الممكن! ويقابلها عقلية " البؤرة" الخارجة عن القانون.
ولما كانت قوة العمل متنفساً للبقاء وشريان الحياة، تصبح هي ذاته بمعادلة الخارجة عن القانون. وحدها الطغمة المسيطرة التي تجيز لنفسها حصرياً دون غيرها، النطق باسم السيادة، تمنح بوصفها "ديكتاتورية مفوضة". تستطيع أن تقصي من تشاء أو تعلق العمل بالقانون إن ارادت أو الاستنساب مثلاً. في سن او تجاهل المراسيم التطبيقية والتنفيذية للقانون ذاته.
بهذه الحال يتضاعف الحرمان وتصبح فيه القوى العاملة في واقع عارٍ وبيئة سلبية قلقة كأنها حالة طوارئ دائمة، يذكّر هذا الواقع بما أورده الفيلسوف الايطالي "جورجيو أجامبين" في كتابه عن الإنسان المستباح والحياة العارية، حيث قال إن ‏"حياة الإنسان داخل معسكر الاعتقال أو داخل مخيم اللاجئين لا تختلف كثيراً عن حياة الإنسان داخل أي نظام سياسي ليبرالي يملك القدرة على إقرار حالة الاستثناء".
حالة الاستثناء المؤقت، التي مهما طالبت بالمساوة فأنها ستصطدم بقانون قائم على اللامساوة! عموماً فأن قوة عمل الإنسان في النظام الرأسمالي سلعة قابلة للبيع لمن يشتري. والربح والخسارة. فإن كان العمال غير الشرعيين يخدم الرأسماليين كيد عاملة رخيصة وغير محمية، فلا بأس! لأنه يوفّر جيشاً عاطلاً عن العمل يشكل ضغطاً على الأيدي العاملة اللبنانية، ومحاولة إثارة الشقاق بينها والعمالة الفلسطينية، وأيضاً مستفيدة من استغلال يد عاملة لا قانون يحميها. محاربة العمالة الأجنبية على قاعدة أنها سبب بطالة العمال المحلية وهذا لم ينطلِ على (الانتفاضة 17 تشرين) التي أسقطت منطق الليبرالية، إن السبب بالسياسة الاقتصادية وليس بالضحية.

القوى العاملة الفلسطينية تدفع ثمن الطائفية وبؤس اللجوء، لم يوقظ فيروس الطائفية في الطغمة اللبنانية المسيطرة أكثر من المطالبة بالسماح للعامل الفلسطيني للاجئ بمساواته بالعامل اللبناني المواطن، لم يجرِ إجماع أكثر من التواطؤ في تعليق القانون كما في هذا الشأن، كإمتداد لحالة الاستكانة والهروب من المشكلة وتأجيلها واحتواء مفاعيلها من خلال عدم وضع تشريعات هو تبرير القوانين المجحفة التي سنّتها بحق اللاجئين الفلسطينيين، والتي تحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية والاجتماعية. في عشرات المهن الممنوعة في الأساس هي غير متاحة حتى للعامل اللبناني الذي يُعاني من الدور المقيت في المحاصصة ومذهبة الوظيفة، لذلك فهذه التركيبة الطائفية المسيطرة تساوي وتوحّد الحرمان للعامل مهما كانت طائفته أو هويته وجنسيته.
وما إجراءات وزير العمل المستقيل، وعدم استثنائه الفلسطينيين من "حملة مكافحة العمالة الأجنبية"، الأمر الذي شكّل حالة غضب في المخيمات. فهو أراد تفعيل قانون يخص الأجانب؛ عبر إسقاط صفة اللاجئ عنهم واستهداف اللاجئين ككتلة سياسية عبر تحويلها إلى شيء آخر. وليس رغبة بترخيص عملها فهي إن دفعت ضريبة الضمان الاجتماعي أيضاً لا تستفيد منه، قدّمت هذه السياسة نموذجاً لمدى التسييس الممكن لقانون العمل تماشياً مع (صفقة ترامب)؛ هذا من جهة ومن جهة ثانية، ليدخل في نطاق حرف الأنظار وفق ذهنية طائفية عن المسبّب الحقيقي للبطالة. وذروة القتل التسلسلي جاء مؤخراً في مواجهة وباء كورونا، وإن كانت المنظمات الدولية تتحدث عن ما نسبته 73% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يعيشون فقراً مدقعاً، و 65% يعانون من البطالة ونقص الفرص، فقد زادت من نسبتي الفقر و البطالة، نتيجة الإغلاق والحجر وخسارة فرص العمل، حذّرنا من ذلك قبيل انفجار الأوضاع المعيشية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، والتي تزداد صعوبة يوماً بعد يوم بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية عدة، وخطر تحوّلها إلى جائحة اجتماعية.

الأول من أيار هي مناسبة لتطوير النضال العمالي المشترك ضدّ الامبريالية المحتضرة ورأسمالية الكوارث والأوبئة، ومن أجل عالم أكثر إنسانية، والشراكة المديدة بين الطبقة العاملة اللبنانية والفلسطينية، بأبعادها التحررية والاجتماعية هي علاقة أعمق بكثير من أنها قضية تقنية فحسب، بل لتكن أقوى من طائفية الكوارث ومن أدوات تشريع الحرمان والإفقار والإذلال والإنكار التي تطال الكادحين كافة، وبالنضال المشترك وحده نحمي لقمة العيش والكرامة والعدالة الاجتماعية والوطن.
*روائي وقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 376
`


مروان عبد العال