ولطالما كانت فلسطين، الوجهة والبوصلة، إليها مضوا حاملين لواء الدفاع عنها في وجه مشروع استعماري بكّر في اجتياح منطقتنا، فمضوا على طريقها شهداء وجرحى ومعتقلين... هي درب الحرس الشعبي وقوات الأنصار و"جمّول"، درب التحرير الذي سطعت أنواره وبشائره في فضاء كل المدن والقرى بدءاً من بيروت وصولاً إلى مشارف فلسطين. هي درب وحدة لبنان الحقيقية، درب التغيير والخلاص من النظام السياسي الطائفي وتبعيته. وعلى هذه الدرب ساروا مرفوعي الرأس وما بخلوا في التضحية والعطاء، فوحّدوا بدمائهم لبنان الذي أرادوه وطناً واحداً موحدّاً لكل أبنائه، وطناً يتسامى فوق حدود الطوائف والمذاهب والمناطق والكانتونات. هي درب الثقافة والفنون، وإليها كانت العقول والقلوب شاخصة تهتف لأجمل الأمهات التي تنتظر ابنها على عتبة الدار. هي درب العمال والفلاحين والفقراء، الذين ما استكانوا يوماً، بل تابعوا عملهم ووواجهوا بصلابة وكبرياء جور الحكام وظلم الرأس المال وتسلطه واستبداده... أمام هؤلاء الشهداء، أنّى سقطوا في ساحات النضال، ننحني اليوم لعظيم تضحياتهم وما صنعوه وأنجزوه بدمائهم الزكية، يغمرهم حزبهم بألف تحية وبآلاف الورود الحمراء، وبالعهد والوعد بأن تبقى رايتهم خفّاقة ومجلّلة بمشاعر الحب والوفاء والتقدير.
فماذا عسانا في هذه المناسبة قائلين؟
هو المشروع نفسه لا يزال متوغلاً ومتغولاً في منطقتنا، وتُفتح له أبواب عواصم التطبيع والاستسلام في الوقت الذي تضيق فيه جغرافية فلسطين. هو امتداد للهجمة نفسها التي بات عمرها اليوم قرناً من الزمن وما انفكّت تزداد عدوانية وتوحشاً؛ حيث تستمر الحروب ويشتدّ الحصار وتتعاظم العقوبات، وتتعمّق الهيمنة والتبعية فيما يتمّ إخضاع الشعوب بطرق قسرية وبأشكال من العجز الكلي والقلق والتشتّت والضياع تحت وطأة هموم تأمين قوتها اليومي، بعدما استغلوها وقمعوها وأسروها ودفعوها إلى مستنقع العوز والفقر....
ها هو لبنان يتجه اليوم نحو ذروة الانهيار؛ نظام سياسي متهالك يتهاوى على أبواب صندوق النقد الدولي، متوسلاً الحلّ حتى ولو أتى على حساب شعبه وعماله، وحتى ولو كان ثمنه التفريط بالتاريخ الذي صنعته دماءٌ عزيزةٌ سقطت لأجله. أمّا السلطة المنبثقة من هذا النظام، فهي تتناسل عبر سياسات، أساسها ترسيخ الريع والسرقة والفساد والسطو على المال العام والخاص واستجلاب الديون والخضوع للاستتباع والتفريط بالكرامة الوطنية. وها هي السفيرة الأميركية تجول وتصول بين القصور الرئاسية والوزارات والإدارات، تُعطي الأوامر وتصدر التوجيهات وتحرّض وتتآمر... من دون حسيب أو رقيب. سلطة ضربت بعرض الحائط كل إنجازات الشعب اللبناني وتضحيات أبنائه، من دون أن تخجل أو تتورع مما جنته يداها من انهيارات وكوارث اقتصادية واجتماعية لم بسبق لبلد أن شهد مثيلاً لها من قبل.
هو لبنان، الذي انتفض على مرّ العصور، وها هو ينتفض اليم، فكانت الانتفاضة الكبرى التي أطلق فيها الحزب، إلى جانب قوى يسارية، جمّول ضد الاحتلال الصهيوني يوم تدنيسه سيدة العواصم بيروت. وكانت أيضاً الانتفاضات المتعاقبة جنباً إلى جنب مع عمّال لبنان ونقاباته وهيئاته المهنية والتي فرضت تصحيحاً لظلم تاريخي في الأجور. وهو الحزب الذي نزل إلى الشوارع وبموجات متعددة، لإسقاط النظام الطائفي وسلطته، والذي انتفض في 17 أكتوبر ولمّا يزل، موجّهاً البوصلة بالاتجاه الصحيح ضد مزارع الطوائف وصبيانها، الساعين إلى خطف نضالات الشعب اللبناني وتوظيفها في توازناتهم السلطوية أو لتصفية حساباتهم الزبائنية والشخصية. إنّ انتفاضة الشعب اللبناني هي ملك كل المتضررين من سياسة هذه المنظومة الحاكمة منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولا شيء يسمو على اسقاطها واستبدالها بمشروع سياسي وطني بديل.
وإلى الشيوعيين نقول: كما كنتم إلى جانب شعبكم في كل المحطات كونوا اليوم؛ تقدمّوا الصفوف ولا تبخلوا بشيء، فحاضركم ومستقبلكم لا يمكن أن يكونا إلّا امتداداً واستكمالاً لتاريخكم الوضّاء. ناضلوا من أجل لبنان وطني ديمقراطي مقاوم. ناضلوا من أجل كرامة شعبكم، ومن أجل فقرائه وعمّاله وموظفيه إلى جانب كل الفئات المحرومة. اعملوا على توحيد الصفوف وتغيير موازين القوى، وفي كل المناطق، من أجل بناء أوسع ائتلاف وطني للتغيير على أساس مشروع سياسي بديل وسلطة بديلة، ولتكن احتفالات يوم الشهيد الشيوعي، في بيروت وفي كل المناطق اللبنانية، محطة من محطات النضال من أجل تثوير انتفاضة شعبنا وتحقيق أهدافها. هكذا نكون وسنبقى أمناء مخلصين لدماء الشهداء، كل الشهداء... هو العهد نقطعه لهم جميعاً على متابعة المسيرة لتحقيق أحلامهم في وطن حر وشعب سعيد.
عاش يوم الشهيد الشيوعي
والمجد والخلود للشهداء الأبرار
بيروت في 16/6/2020
المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني