الحماسة الصامتة *

بين حماسة القول وحماسة الفعل مسافة... وقد نقول: مسافة طويلة...
هكذا اعتدنا "معرفة" العلاقة بين الحماستيْن.. لأننا اعتدنا ممارسةَ الوجه الواحد من الحماسة... حماسة القوْل، دون الفعل... لقد اعتدنا ذلك زمناً طويلاً طويْنا خلاله مراحلَ طويلةً من تاريخنا القومي الحديث، حتى رسختْ عندنا صورةُ المسافة الوهمية بين حماسةِ القول وحماسةِ الفعل... وحتى رسختْ عندنا لذلك صورةٌ وهمية للعلاقة بين الحماستيْن، هي صورةُ التناقضِ الباطلِ بينهما!...
***


هل نحن الآن على عتبةِ مرحلةٍ جديدة؟... أعني، مرحلة من نوعٍ جديد تتبدّلُ فيها أشكالُ العادةِ والمعرفة والمقاييس والعلاقات، تبدّلاً "نوعياً" ولنقلْ "جذرياً" كذلك؟
أيامنا هذه في بيروت "غير المحتلّة" تقولُ، نعم...
وبيروت "غير المحتلة"، تعني في هذه الأيام، بيروت المطوّقةَ بالحصار الإسرائيلي ـ الأميركي ـ الكتائبي، عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً ومعاشياً وحضارياً، أي حصاراً جهنمياً همجياً شاملاً...
وبيروتُ "غير المحتلة" تعني في هذه الأيام أيضاً، بيروت الواقفة بكبرياءٍ وشجاعةٍ خارقتيْن حيال هذا الحصار الجهنّمي الهمجي الشامل.
إذن، أيامنا هذه، في بيروت هذه، يحق لها أن تقول: نعم، نحن الآن على عتبةِ مرحلةٍ "نوعيةٍ" جديدة...
***
للمرحلة ِ علاماتُها وقد يصحُّ القول: تباشيرها...
ينحصرُ الكلامُ هنا، اليوم، في علامةٍ واحدة.
ـ الحماسة الوطنية الصامتة...
سمّيناها "الصامتة" لسببيْن، لأنها حماسةُ فعل، ليس معها قوْل، أولاً... ولأنها ـ ثانياً ـ حماسةٌ لها عمقٌ داخليٌّ هادئ.. لا تثيرُ زَبَداً ورغوةً على السطح، ولا تهيجُ ضجيجاً وعجيجاً في الفضاء.. وهي، مع ذلك، فاعلةٌ ديناميكية، سخيّةُ العطاء، متحرّكةٌ في عمقِ القضية ـ المعركة، بجدِّيةٍ وحرارة...
***
نرى الوجهَ الطبيعيِّ المُشرقُ لهذه العلامة ـ البشارة، في حركة التطوّع التلقائي الحماسي للخدمةِ الفعلية في مختلف ميادين القضية ـ المعركة...
أما التطوّع لقتال العدو على خطوط النار مباشرة فذلك لأمرٌ نتهيّبُ الحديثَ عنه هنا الآن... إنه أمرٌ آخر لا يُستطاع الحديثُ عنه إلّا مدجّجاً بروح البطولة الملفعة بخطوط النار، هناك...
أما الحماسةُ الصامتةُ التي تحملُ العلامةً ـ البشارة، في ميادين القتال الأُخرى، فهذه نستطيعُ مقاربتَها بالعيْنِ واليدِ والقلبِ والكلمة، مباشرة: إنها هنا في خطوط العمل الميداني الدينامي الصامت، والذاهبِ عمقاً في خدمةِ الصمود الوطني ورعايته...
***
إنك هنا في خطوط العمل الميداني، (المستشفيات، والمستوصفات الميدانية، ومراكز الدفاع المدني، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية المنقذة)، تُحسُّ اشتعالَ جسدِك حماسةً دون أن تقولَ كلاماً "حماسياً".. لأنّ كلَّ كلامٍ من هذا النوع يتكسرُ حطاماً على عتَبةِ مدخَلٍ متواضعٍ لأحدى هذه الخطوط، أي لإحدى خلايا النحل البشري العاملةِ لحماية الإنسانِ برفقٍ وحبٍّ وفداء...
***
أنتَ ترى هؤلاء المتطوّعين المتوافدين إلى هذه الخلايا، بتلقائيّةٍ داخلية، بعفويةٍ وطنيةٍ صامتة، فترتعشُ فرَحاً... وارتعاشةُ الفرح في أيام بيروت هذه، ليس أثمنَ منها شيءٌ في أشياءِ عمرنا كلِّه... ليس أطيبَ منها شيءٌ في طيباتِ حياتنا كلِّها...
***
لكيْ نتذوَّقَ طعمَ الفرحِ الحقيقي، في أيام الحزن الحقيقي، تعالَ إلى إحدى خلايا الحماسةِ الوطنيةِ الصامتة لنرى بالعيْنِ واليدِ والقلبِ كيف تبزغً العلامةُ ـ البشارة لولادةِ مرحلةٍ جديدة...


* نُشرت هذه المقالة للشهيد المفكر حسين مروة في جريدة "النداء" بتاريخ 17آب 1982 (أيام العدوان الإسرائيلي الغاشم على الأراضي اللبنانية).