اللبنانيون في مواجهة ثلاثية السلطة والفقر والجوع

... هو الإنهيار الشامل وقع، والذي لطالما حذّر منه عددٌ من الاقتصاديين والقوى اليسارية الوطنية، التي لم تتوانَ طيلة السنوات الماضية ولا سيما السنوات الثلاث الأخيرة من افتراش الساحات والشوارع، في مسيرات وتحركات احتجاجية، ومحطات نضالية متعدّدة لمواجهة الطغمة الحاكمة وسياساتها الاقتصادية والنقدية وبخاصّة الضرائبية المجحفة بحقّ الفقراء، بهدف تغيير هذه السلطة السياسية التي لا تستطيع إلّا أن تكون سلطة محاصصة ومحسوبيات وزبائنية...


كما أن تداعيات هذا الانهيار لم تستثنِ أي فئة اجتماعية، وانعكست موجة غلاء غير مسبوق، وسط أزمة سيولة حادة وشحّ الدولار الذي لامس سعر صرفه في السوق السوداء عتبة العشرة آلاف ليرة فيما السعر الرسمي لا يزال مثبتاً على 1515 ليرة، ولكن فقط في تصريحات المعنيين و"تطميناتهم" الكاذبة. وبات تأمين الرغيف والحليب والمحروقات والطبابة والتعليم وثبات العملة الوطنية، الهاجس الأول لدى الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، الذين أٌجبروا على الوقوف في طوابير الذّل أمام المصارف، ومحطات الوقود، والأفران... في ظلّ فشل الحكومة عن تأمين الخطط الاجتماعية والاقتصادية...

الجوع وحّد الشعب !!

ماذا بعد..!!؟ هو السؤال الذي يطرحه المواطن اللبناني حالياً، في ظلّ كلّ السيناريوهات السوداوية التي باتت تظلّل حياته اليومية ومأساته الاقتصادية والمعيشية... ويكرّر ترداده وهو يراقب ارتفاع الأسعار الجنوني، عاجزاً عن إيجاد الإجابة، أو خائفاً من يقينه؛ بأن "الآتي أعظم".. فما هي قدرته على التحمّل... والدولار يواصل تحليقه في السوق السوداء وتآكل القيمة الشرائية لليرة اللبنانية...

وكم أب أو أم أمسكوا علبة الحليب لطفلهم، واغرورقت عيونهم بالدمع والغصّة، لعجزهم عن تأمين ثمنها؟ من منّا لم يقصد الدكان أو السوبرماركت ويُفجع بالأسعار الصادمة، يدور كباقي الزبائن من ستاند إلى آخر بحثاً عن احتياجاته بمبلغ مقبول، ولكن دون أن يجدها... فالرفوف باتت فارغة، والمتبقّي عليها ارتفع سعره الضعف، لا بل عشرات الأضعاف...

تنظر صامتاً أمام ربّ عائلة يحدّث نفسه "هيدا كفر"، ويخبرك أن كيس الأرز ارتفع أربعون ألفاً ببضعة أيام. وأمام الصندوق السلال شبه فارغة، حتى بعد بدعة ما سمي بـ "السلة الغذائية"، وكما أن عدد أغراضها الذي لا يتجاوز أصابع اليد فاتورته مرتفعة جداً. ناهيك عن ما تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي من مشاهد عكست مأساة اللبنانيين ووجعهم، منها لآباء يسطون على الحليب أو السيريلاك لإطعام أطفالهم، كالأب الذي اعتذر من الصيدلي عن فعلته، وهو يبكي، متمتماً "ما بدي مصاري، بس بدي طعمي إبني"، وكذلك انتشار صفحات مقايضة أثاث المنزل أو الثياب بأكياس العدس والأرز أو الأدوية. وآخرون يحتضنون مستوعبات القمامة بحثاً عن بقايا طعام...

أما آخر "إنجازات" حكومة "الاختصاصيين" كان في رفع تسعيرة ربطة الخبز والتي باتت رسمياً في الأول من تموز ألفي ليرة، مع أن وزنها انخفض. وبكلّ وقاحة برّر وزير الاقتصاد تمرير هذه الزيادة، خوفاً من تنفيذ أصحاب الأفران تهديدهم بالتوقّف عن تأمين الخبز. أما الأوقح فهو تعليل نقيب الأفران، وتصريحه أن السعر سيرتفع أيضاً كلّ أسبوع. وكأنهما لا يعلمان.. أن هناك عائلات كثيرة لا تملك ثمن ربطة الخبز، والذي بات قوتها الوحيد. ولبنان مهدّد بالعتمة بسبب نفاذ مادة المازوت والفيول، فالكهرباء أصبحت ساعتين وأقل، وأصحاب المولّدات بدأوا تطبيق التقنين أيضاً، وأكياس الشمع انقرضت من الأسواق وارتفع سعرها من ألف ليرة إلى 15 ألف، وأما صفيحة الكاز فبلغت المئة ألف.

وغاب اللحم عن وجبات معظم اللبنانيين، ومنهم عناصر الجيش أيضاً. إذ بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة في البلد، ألغت المؤسسة العسكرية، التي تعاني من الأوضاع الاقتصادية الصعبة نفسها، مادة اللحم كلياً من الوجبات التي تُقدّم للعسكريين أثناء وجودهم في الخدمة.

السلطة تقتل الشعب...

دخل لبنان نفق الانتحارات الجماعية، لا بل القتل الجماعي الممنهج الذي تقترفه المنظومة الحاكمة يومياً بحق الشعب اللبناني منذ 30 عاماً. وبداية الشهر الحالي سجلت أربع حالات انتحار في 24 ساعة.ففي الثالث من تموز الجاري، قرّر علي الهق (الهرمل) وسامر حبلي (صيدا)، الالتحاق بجورج زريق وناجي الفليطي وداني أبي حيدر واللاجئ السوري بسّام حلاق… بسبب الوضع المعيشي وتفاقم الأزمة الاقتصادية. ثم تبعهما في اليوم الثاني خالد يوسف (صور)، وتوفيق ف.ح. (بعبدات - المتن)، ليصبح الانتحار قدراً آخراً مسلطاً على أعناق اللبنانيين.

هم لم ينتحروا، بل قتلهم النظام ببرودة أعصاب وقبلهم الكثير، وما زال يواصل جرائمه في القتل.وأيضاً لم يقتلوا في لحظة الضغط على الزناد، أو شدّ الحبل، أو الرمي من شرفة المنزل... بل هم كالـ 99 % من اللبنانيين، قُتلوا.. وتقتلهم هذه المنظومة الحاكمة في كلّ ثانية بسياساتها الفاسدة ومحاصصاتها ومواصلتها نهج الإفقار والتجويع والسرقة والفساد.قتلوا مراراً في لحظات التفكير دون ما جدوى بتأمين ربطة الخبز، وسعر الدواء، وإيجار البيت...أما السجل العدلي الخاص بعلي الهق الذي ظهر أنّ "لا حكم عليه"، وورقة كتب عليها: "أنا مش كافر"، لم يحرّكا السلطة، التي كان عليها أمام استشهاد مواطنيها أن تستقيل فوراً، وتُرك جثمانه مرمياً على الأرض لساعات قبل إيجاد مشفى لاستقباله.


إلى الشارع...

يشهد لبنان، منذ 17 تشرين الأول الماضي، احتجاجات مستمرة على إثر تردّي الوضع الاقتصادي في بلد غارق بالديون والفساد، ويعاني من أزمات إقتصادية ونقدية وبيئية وسياسية مركّبة.وللشهر التاسع على التوالي، ما زالت الاحتجاجات والتظاهرات تتواصل، في عدّة مدن لبنانية، ويطالب المنتفضون بتحسين الوضع المعيشي ومحاسبة الفاسدين، وتثبيت سعر الصرف، وتأمين الكهرباء والماء... والقضاء العادل واسترداد الأموال العامة المنهوبة ومحاسبة الفاسدين، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات نيابية انتقالية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي، واعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة. ومؤخراً عمّت الاحتجاجات بعض القرى أيضاً، لا سيما أن أغلب الأهالي فيها لجأوا إلى الزراعة بعد إقفال مؤسساتهم ومحالهم أو صُرفوا من وظائفهم، ولكن للزراعة متطلبات خاصة، أغلب البلديات لا تقدّمها، وبخاصة المياه.

البقاعيون في مواجهة الأزمة...


حول واقع تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان أكّد عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني حسن خليل في تصريح لـ "النداء" أن "الأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد لها انعكاسات على منطقة بعلبك الهرمل بشكل أكبر من باقي المحافظات لحرمانها أساساً على مدى السنوات الماضية من المشاريع الملموسة والمنتجة خلال الموازنات، ممّا أدّى إلى ازديادها فقراً وحرماناً على الصعد كافّة".وعن دور الحزب الشيوعي في المنطقة للتخفيف من وطأة تلك الأزمة على الأهالي أشار أنه "خلال اشتداد الأزمة في الأشهر الماضية عاد البقاعيّون بأغلبيتهم إلى زراعة أراضيهم وذلك بعد حملات التوعية من قِبل الجمعيات والأحزاب ونحن منهم، وتأمينهم الشتول والبذور للمزارعين بهدف الاكتفاء الذاتي. وقد برزت معاناة مستجدة متمثّلة بارتفاع سعر المازوت ليتكبّدوا تكاليف إضافية لريّ مزروعاتهم، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المبيدات بشكل جنوني".

شهر الميم ومضاعفة الأزمة...
كما تطرق خليل إلى غياب دور الدولة ومواصلة إهمالها للمنطقة "في ظلّ هذه الظّروف القاهرة يجب على الدولة (بالحد الأدنى) تأمين المساعدة الفعّالة بدعم الأدوية الزراعية، وبهذا تكون قد وفّرت ملايين الدولارات من خلال الانتقال التدريجي من الاقتصاد الريعي باتجاه الاقتصاد المنتج. أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار المحروقات التي تجاوزت الـ 22 ألف ل.ل. (إذا وجدت أصلاً)، ناهيك بأننا متجّهون خلال شهرين إلى ما يُسمّى في منطقتنا بشهر الميم اختصاراً لأول حرف من المازوت، المدارس، والمونة"، متسائلاً: "كيف سيستطيع المواطن تأمين التدفئة؟ وهل ستستوعب المدارس الرسمية التوجّه الجماعي من التعليم الخاص إلى الرسمي نتيجة عدم قدرة الأهالي على دفع الأقساط الجنونية في المدارس الخاصة؛ فمثلاً على صعيد بلدة العين في البقاع الشمالي هناك أربعة مدارس خاصة فيها ما يقارب الـ 2500 طالب، مجرّد انتقال 10% منهم فقط نحو المدرسة الرسمية سيسبب كارثة إضافية للمدرسة التي لم تعد تتّسع لطالب واحد". وتابع" بالانتقال إلى التراث الذي ورثناه منذ القِدم بالمونة الشتوية يتجاوز اليوم سعر سطل اللبن 16 ألف ليرة كحد وسطي وهو المكوّن الأساسي لإنتاج الكشك، فيما سعر كيلو الجوز للمكدوس قد تجاوز الـ 70 ألف مبدئياً. وهذان أكثر منتجين نتغنّى بهما، ومن خلالهما تؤمّن أغلب العائلات قوتها في فصل الشتاء".

"ممثلو الشعب" الغائبون...
وعلى الصعيد السياسي، أشار خليل إلى "أن منطقتنا فيها 10 نواب (فريقي 8 و14 آذار)، من سلطة واحدة فعلياً تتمعّن في ازدياد الإفقار والحرمان، وأولئك النواب يعلمون جيداً بأن طلاب الهرمل عليهم يومياً اجتياز 90 كلم لتحصيل العلم. كما يعلمون أنّه لا يوجد إلّا "طرقات الموت" لا إنارة فيها ولا تعبيداً جيّداً في الأصل، إضافة الى التفلّت الأمني المتزايد وعمليات السرقات والتشليح حتى في وضح النهار".

وأضاف منتقداً من مفترض أن يمثل الشعب، لا أن يمثل عليه... "10 نواب ووزيران شاهدوا الحرائق في الهرمل منذ اسبوعين تُبكي الكهل والطفل، وتدمع الشجرة لاحتراقها، وعلى ضفافها نهر من أكبر الأنهار في لبنان؛ والذي حلمنا منذ الصغر بسدٍّ مشيّد عليه. كما تكرّر مشهد الحرائق على أطراف اللبوة الأحد 28 حزيران الماضي، والتي كادت أن تلامس المنازل لولا همم الأهالي التي أطفأتها وبمساعدة الدفاع المدني"، مشدّداً على "أن نواب منطقتنا يعلمون جيداً حجم الكارثة الاقتصادية التي حلّت على المطاعم والمعالم السياحيّة (قلعة بعلبك، العاصي...). وبالتّأكيد إنّ وباء كورونا قد أثّرّ بطريقة ملحوظة بمدى الإقبال عليها وانعدامه، إلّا أنّ الأثر الأكبر هو تردّي الوضع الاقتصادي مما أثرّ سلباً على أغلب المؤسسات، ودفعها إلى الإقفال نتيجة عدم قدرتها على الاستمرار في ظلّ تفاقم الوضع، إضافة إلى الإقفال اليومي للمحلات الصناعية والغذائية والتجارية نتيجة الإفلاس وعدم القدرة على الاستمرارية. كما أن هناك عشرات المقالع في عرسال تعجز حالياً عن تصريف إنتاجها من الحجر العرسالي الشهير لعدم قدرة المواطن اللبناني الاستمرار في تشييد منزله".

وختاماً، شدّد خليل على مواصلة التحرّكات حتى تحقيق المطالب وإسقاط هذه المنظومة الفاسدة وسياساتها الاقتصادية والنقدية الممنهجة في تجويع وإفقار الشعب وسرقة البلد، مؤكداً مواصلة المواجهة "10 نواب يعلمون ويعلمون... ونحن مستمرّون مناضلون باتجاه وطن حر وشعب سعيد...".

  • العدد رقم: 380
`


كاترين ضاهر