تسألني كيف الحال؟ فأجيب ماشي الحال!! أكذب أنا، ونكذب نحن جميعاً بجدارة وعن استحقاق، فكلّنا لسنا بخير. كلٌّ منّا لديه كذبة على مقاس حلمه، كلمات منمَّقة مزيَّفة تتردّد لتغطّي سخرية القدر والحياة.
محاولاتنا الجادَّة لترميم الواقع المُرّ تشبه المُخدَّر لساعات ويزول مفعوله. نغفل عن متاعب الناس وهمومهم، وعن تفاصيل يومياتهم كمواطنين مهمَّشين لا صدى للصوت ولا رؤية للملامح.
نمشي بثقل كأنّنا نحمل على أكتافنا أطناناً من التعب المُرّ، الذي يستعمر خزّان ذاكراتنا منذ القِدَم.
كأنّنا خلف شبّاك حافلةٍ تسير بنا كلَّ يوم، ونحن ننظر عبرها ونرنو لوطنٍ يلفُّهُ حِزام بؤسٍ وعاصمةٍ يزنِّرها طوقٌ مُحْكَم الإغلاق عنوانه الفقر المدقع والجوع والحرمان.
1500 ليرة سعر الصرف الرسمي، ويدور في بالنا ألف وخمسماية كذبة إسمها وطن «لكل أبنائه».
أسعار العملات المتفاوتة ما بين المصارف والأسواق، وودائع الناس التي تبخّرت في المصارف، والغلاء الفاحش في ظلِّ تدهور قيمة الرواتب تُبقي المواطنَ قابعاً في زاوية الفقر، كحمَّالٍ لأمتعة المٌترَفين من سياسيين، وأصحاب سلطة وفاسدين. استشعروا الأمان في المصارف، فتلاشى كسحابةِ صيفٍ، وضاعت معها أحلام العيش الكريم وتعويضات نهاية الخدمة وتعليم الأبناء والطلاب في الداخل والخارج، وحجب أموالهم المرصودة لنيلهم شهاداتٍ هي في الأصل تصبُّ في مصلحة هذا الوطن المنكوب.
أعيش يوماً بيوم تفاصيل هؤلاء الناس، أبحث في خباياهم، أتفرّس في تجاعيد وجوههم التي حفر الزمن فيها أخاديد، فبانت كخريطة وطنٍ مقهور، فيما يعتصر أرواحهم ألمٌ يصعب إخفاء أسراره، وهم يشاهدون من يحبّون على قيد سريرٍ خلف جدار يشبه الإسمنت المجبول بالقسوّة والظلم. يشتاقون لحضنٍ أو للمسةِ حُبْ.
أين نحن اليوم...!!؟
إذا أردت زيارة حبيبٍ أو مريضٍ يلزمك فحصَ وباء، وقد يتكرّر أكثرَ من مرّةٍ في الشهر الواحد.
أن تجول وتصول في البحث عن دواء في ظلّ هيمنة مافيات الأدوية.
أن تطلب بلاكات دم تكلفك مبلغاً من المال.
أن تطلب جهازاً للتنفس، وأنت لا تملك ثمن إيجار منزلك وقوتَ يومك وخبزَ أطفالك.
أن تدقّ أبواب الوزارة لإجراء كشفٍ للوباء.
أن تكون مصاباً، وكلّ من حولك مجبر على العزل.
كلُّ هذه التفاصيل، والجيب فارغ، فيه فقط جوعٌ وعوزٌ وغضب.
ثلاثون عاماً وأكثر، ونحن ننشد التغيير؛ تظاهرات، اعتراضات، نقابات، نرفع الصوت عالياً، ونفترش الأرضَ بأجسادنا رفضاً لهذا النظام العفن.. الرديء والغوغائي، وأخيراً أنت خائن... نعم خائن للسلطة الجائرة، المتحجّرة. لم يعد في جعبتنا غير تأمين حاجات يومنا من مأكل ودواء وطبابة في ظلّ غياب الحلم والأمنيات. عن أيِّ وطنٍ سنتكلم؟ عن نظام سياسي فاشل يمتهن هتك الكرامات، لتغدو ثقافتنا الرائجة لملمةَ بقايا الفضلات من حاويات النفايات، وطلب المساعدات من الجمعيات، والتي قد تصبح من المشاهد المألوفة للأسف، ناهيك عن الموت على أبواب المستشفيات، في ظلّ فئة أخرى تحترف فنون البلطجة وسرقة أرزاق الناس. ما هي غاياتنا من كلّ هذا؟ أن نترأس منصباً أو حكومة أو مقعداً نيابياً أو ماذا؟ هل المطلوب ملازمة العامل والفقير وطناً لا قيمة فيه للإنسان. كيف نكون بخير؟ ونحن أمام مهبِّ ريحٍ هوجاء. إن التفتنا إلى الوراء بكينا وإن نظرنا إلى الأمامِ أصابنا اليأس. نترقّب خسارة أحبّتنا واحداً تلو الآخر، والخيبات استوطنت قلوبنا.
أيّ خطيئةٍ ارتكبنا حتى تخيّم علينا ثقافة الموت والأمراض والفساد.
لقد تقلّصت أحلامنا تدريجياً وتراجعت طموحاتنا كمواطنين إلى حلمٍ يشابه الأوطان ويقدّر الإنسان، إلى حلم على سريرٍ في مستشفى يلتقط ما تيسر من بعض الأنفاس قبل الرحيل الأبدي، أو الطموح للحصول على تأشيرة هجرة أو الفوز بقبولنا على لائحة المساعدات والمعونات. ها نحن على أبواب خريف العمر نرقب جيلاً جديداً يكسر القيود، ويأخذنا إلى زمن الانتصارات الحقيقية، وينهل من إنجازات من سبقه من أجيال، لينتج رؤيةً ولغةً وثقافةً وشعارات بديلة، وأن يكون هو نفسه بديلاً يتميّز بالوعي الحقيقي، ليشيِّد أُسسَ وطنٍ جديدٍ على أنقاض مئوية نظام التحاصص والتعصّب والربح الحرام، وطن الإنسان والعدالة الاجتماعية، وطن العلمانية والمساواة.
لم يتركوا لشاباتنا وشبابنا ما يخسرونه، لقد سرقوا منهم الحلم، وبعثروا قدراتهم، وبتنا نقرأ الخيبات الجليَّة في حدقاتهم، لكنهم ثاروا في السابع عشر من تشرين، وصرخوا ملء حناجرهم وقهرهم، فكانوا أكثر قوةً وأصلب عوداً، رمّموا ذاكرتنا ببنات أفكارهم الخلاّقة، فصوَّبوا البوصلة نحو من سطا على أحلامنا وآمالهم.
طفح الكيل ولم يعد لدينا ما نخافه، فليبنوا زنازينهم، فلم يعد في الأرض متّسع لهم ولجلّاديهم.
سنحاسبكم... نعم، سنحاسبكم، ولن نفوِّتَ الفرصة لأخذ ثأرنا كرمى لعيون أولادنا وأهلنا ورفاقنا...
التوجّه للثورة اليوم يختلف عن الأمس.