في نقد اليسار: النسويات يقاتلنَ وحيدات

في نقد اليسار: النسويات يقاتلنَ وحيدات Lauren Jacobs

النساء يقاتلنَ عن العالم. تنتهي الحروب والثورات وتسقط الامبراطوريات وتصعد أخرى وتبقى النساء وحيدات، يُقاتلن عن العالم.

تجف الدماء وتُخلى الساحات ويُدفن الشهداء وتبقى النساء وحيدات يُقاتلن عن العالم. لم يُقاتل أحد عنّا، كانت الحروب تقضم من أجسادنا، تأكل أولادنا ومن نحب، تلوك حقوقنا وتبسقها ميتة، كانت الثورات تقوم على أكتافنا تأخذ ما تحتاج من عظامنا، وتمضي... تسقط او تنتصر، ونبقى نحن النساء، نقاتل وحيدات، عن العالم. لمَ بقينا نقاتل طوال التاريخ؟ لأن الحروب تنتهي فقط عند أطرافها، المنتصر يملأ كيسًا من الانتصارات والكبرياء والقوة ويجلس، والخاسر يخبئ نكساته في قبور ضحاياه ويمضي يحضر لحرب ثانية، أما نحن، نتحمّل نتائج الحرب الحقيقية ونستمر، نقاتل الحرب نفسها، نيابة عن العالم، وحدنا.

 

كُتبت هذه المقدمة بهدف جمع النساء على قضية واحدة، لا فصلهن عن الصراع الاساس. لا أرى النساء طبقة منعزلة، لا أرى أن صراعهن صراع مع الفضاء والمخلوقات الفضائية، هو صراع طبقي مع النظام نفسه الذي يقاتل البشرية ومستقبلها، لكن النساء يتفردن بصراعهن ضمن الصراع الواحد الكبير. لم يتخلّ أحد عن يوم واحد من حياته ليصرخ في الساحات عنا، لم يقدم أحد، لا حزب ولا تنظيم ولا حركة، على وضع قضايانا ومعاناتنا في المقدمة.

لقد قاتلنا نيابة عن كل المقهورين، لقد أجبرنا من يريد مستقبلًا أفضل للبشرية أن يتبنى مواقفنا السياسية، من يريد حياة تقدمية وسليمة لا بد له من تبني الفكر النسوي، ومن لا يزال عاجزًا عن فهم أهمية هذا الفكر لاحداث أي تغيير حقيقي في بنية هذا النظام وقلبه رأسا على عقب ودفن رفاته الى غير رجعة، يقبع عاجزًا عن فهم الاحداث السياسية لا سيما أكثرها تعقيدا، عاجزًا عن تفكيكها وتحليلها وايجاد مخرج جذري منها. وهذا واحد من أكبر مشكلات اليسار خاصة اللبناني الذي يتعامل مع الحركة النسوية كحركة غربية دخيلة متبنيًا بذلك رؤية اليمين للحركة، بدل من تبني الفكر النسوي والعمل به وتطويره بما يتناسب مع الظروف الزمكانية.

ما زال اليسار بأحزابه وحركاته المختلفة غير قادر على فهم كيف تكون النسوية مسمارًا اساسيًا في نعش النظام الرأسمالي الذي يدعي محاربته، وهو لا يرى فيه الا وحشاً اقتصادياً يُحارَب على جبهة واحدة. يسارنا قاصر النظر لا يرى كيف ينهشنا النظام من جوانب مختلفة، لا يفقه كيف يوظف أعظم افكاره حسب الحاجة، يريد قطع رأس المال ويده ملفوفة على عناقه. يلعب دور المقاوم الفذ الذي لا يرضى شريكا له في الصفوف الامامية، فتراه يقاتل بعضه ويتعب. يرتجف اذا تطاول أحد وحاول تجديد الفكر يما يتناسب مع تغيرات المجتمع. يسارنا يرفض العودة حتى لكتبه هو لتقييم حاجته الضرورية للعمل بالفكر النسوي.

 

يسارنا عظيم حد تنصيب نفسه على وضع أولويات للصراع مع هذا النظام، كل شيء ثانوي في نظر مفكريه، حتى ولو كانت حياة فئات كبيرة، من الطبقة التي يحمل قضيتها، في خطر. فتراه يهمش معاناة ويُبدي أخرى. قد تقولون أن لكل حركة أو حزب سياسي أولويات، فلنتركم يفترشون المتاريس على الجبهة المختارة، وهذا مقبول لو أن النظام يحاربنا على جبهة واحدة، ومقبول لو أن المتاريس هذه تحدث اي تقدم على الجبهة المقدسة، لكن النظام يسخر من هذه الجبهة في الوقت الراهن، ويحرز تقدماً على الجبهات التي يرفض اليسار المحاربة عليها. لمَ أترك الباب مفتوحًا لأعدائي للاحلال مكاني؟ لمَ عساني أترك القضايا التي يجب ان تكون من صلب برنامجي السياسي، لمجموعة من الليبراليين يمضغون القضايا ويمتصون قلبها ويبسقوها بلا طعم ولا لون؟ لمَ أُعطي الفرصة للنظام بأخذ شكل مشوه للمقاومة؟ كيف أعتكف عن دوري التقدمي في حمل القضايا وأترك خصماً وهمياً للنظام يحل مكاني؟ أين أنا اذاً من الصورة؟

 

لقد سقط اليسار عندما رفض الاعتراف بأن الانسان ليس واحداً، ولم يكن واحدّا على مر التاريخ. لا يريد الحاجات نفسها، ولا لون واحد، ولا نمط واحد للحياة. لست في صدد تبني البروباغندا الغربية عن الشيوعية، ليست الشيوعية نظام الموت والتماثل، وليست فكرًا جامدًا منزلًا غير قابل للتجديد والتطور، وليست ثوبًا عسكريا واحدًا يلبسه الجميع ويموتون من الضجر. ان لم يعِ الشيوعيون اليوم أخطاء أجدادهم في الاتحاد السوفييتي، فلن يكون مصيرهم أفضل. ان لم نتعلم كيف ننظر للانسان الجديد الذي لم يراه ماركس ليكتب عنه، فسنتحول لحركة يمينية في جوهرها. نحن لسنا عاجزين عن تحليل جديد لحاجات الطبقة، لدينا ما يكفي من الخطوط العريضة التي تركها لنا المفكرين/ات الماركسيين/ات، لدينا تجارب عظيمة وجديدة لنتعلم منها ونبني عليها. اذا كنت تنوي مقاتلة نظام ما لأنه يشكل خطرًا، فمن الافضل أن تكون أنت النقيض. ولكي تكون النقيض عليك أن تكون كذلك بعيون جميع ضحاياه، فإذا بقيت مشابه له في عيون البعض فتأكد أنك في احسن الاحوال نسخة "متحورة" منه.

 

لا أبالغ في اعتقادي أن النسويات هن الاكثر قدرة على ضرب النظام واسقاطه أرضاً، هذا ليس لأن النساء أفضل، فلنعتبرها خبرة طويلة في التعامل مع النظام واضطرار يومي لمواجهته وبشتى الطرق الممكنة. النسويات يعرفنَ كيف يأخذن الخندق المعادي للنظام بسلاسة وبطريقة حاسمة. النسويات لا يمكن لهن اخذ نصف موقف وخوض نصف حرب. النسويات يقاتلن نيابة عن العالم، لهن الفضل بأعظم ثورات التاريخ ولا فضل لأحد عليهن سوا أخواتهن. النسويات يقاتلن عن العالم عندما تعلموا طيف يقاتلن عن بعضهن. على أي حال، فلنترك يسارنا يجنح يمينًا غير مأسوف عليه، فالتاريخ لم ولن يرحم، والحركات التقدمية تسحق من يقف في وجهها وتقاوم وحيدة.