كيف بدأت الحرب وما كانت مواقف الأطراف قبيل نشوبها...؟
بعد وصول الحزبين الفاشي الإيطالي (1926) والنازي الألماني (1933) إلى الحكم، وبالرغم من سياسة هذين البلدين التوسّعية (خاصة في المانيا) كانت مواقف الدول الأوروبية، وبخاصّة بريطانيا وفرنسا، تميل إلى مسايرة هتلر وغضّ النظر عن تصرفاته. ويبدو أن تلك الدول كانت تهدف إلى دفع المانيا إلى التصادم مع الإتحاد السوفياتي مما كان سيؤدّي، دون شك، إلى إضعاف القدرات العسكرية لكلا البلدين مما سيسمح للدول الاوروبية (ربما بمشاركة الولايات المتحدة) لاحقاً بتحقيق انتصار سهل على كلٍّ من ألمانيا والإتحاد السوفياتي وفرض هيمنتهم على العالم. ومما يؤكد تلك النيات المحادثات التي أجريت بين المانيا وبولندا في مطلع عام 1939 حيث عرضت بولندا[ii] فتح ممر عبر أراضيها للجيش الألماني ليصل إلى الحدود السوفياتية دون عوائق تذكر في حال قرّرت المانيا الهجوم على الإتحاد السوفياتي.
أمام هذا الخطر المُحدِق بالبلد الذي لم يكن مهيئاً لخوض حرب ضروس، وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي ما زال في طور تنمية وتحديث قدراته العسكرية، اتخذت القيادة السوفياتية أحد أهم قراراتها التكتيكية وهو التفاوض مع المانيا الهتلرية بهدف توقيع معاهدة بين الجانبين هدفها الرئيسي، بالنسبة للسوفيات، إبعاد خطر الحرب، ولو إلى حين، عن بلدهم ريثما تكتمل تطوير الجاهزية القتالية للجيش.
هكذا ولدت معاهدة "مولوتوف - روبنتروب" (بإسميْ وزيريْ الخارجية السوفياتي والألماني) في أواخر آب / أغسطس عام 1939 (أي قبل أيام من اندلاع الحرب العالمية الثانية) والتي ما تزال حتى الوقت الراهن موضع خلاف حاد في التقييم بين القوى والأطراف العالمية. فالغرب، عموماً، وكذلك الليبيراليون داخل روسيا ودول الاتحاد السوفياتي سابقاً ينظرون إلى المعاهدة على أنها تآمر بين ستالين وهتلر ضد أوروبا الديمقراطية أطلق يد الزعيم النازي لشن الحرب في ايلول/ سبتمبر عام 1939. كما تكثر اتهاماتهم التجذيفية حول اتفاق الإتحاد السوفياتي والمانيا الهتلرية على اقتسام النفوذ وتوزيع احتلالهما للدول والمناطق الواقعة بينهما وهو ما شملته الملاحق السرية لمعاهدة "مولوتوف - روبنتروب". ولعلّ المواقف التي اتخذها غورباتشوف ومن بعده يلتسين (والتي للأسف لا تزال تتكرّر جزئياً في مواقف بعض أطراف السلطة الحالية في روسيا) تجاه هذه المعاهدة وملحقاتها تصب الماء على طاحونة التحليلات الغربية. أما الرأي المقابل، والصحيح برأيي، فهو أن المعاهدة شكلت إنجازاً ديبلوماسياً فائق الأهمية للسوفيات تمكّنوا من خلاله أولاً، إلى تأجيل الهجوم الهتلري لنحو سنتين كانتا مصيريتين في مجال تكثيف استعداداتهم (وإن كانت غير كافيتين وهذا ما نتج عنه تمكّن الجيش الهتلري خلال السنة والنصف الأولى من تحقيق انتصارات ميدانية كبيرة واحتلال مساحات شاسعة من الأراضي السوفياتية)، وثانياً، من تقديم خطّ المواجهة مئات الكيلومترات غرباً مما كان له، برأيي، عامل حاسم حال دون سقوط موسكو وليننغراد.
عرض موجز لمراحل الحرب
بدأ هجوم الجيش الهتلري فجر 22 حزيران/يونيو 1941 بصورة مباغتة ودون إعلان مسبق للحرب. هذا اليوم يعتبر في بلدان الإتحاد السوفياتي بداية ما يطلقون عليه هنا اسم "الحرب الوطنية العظمى"[iii]. ميزان القوى العسكري، الذي كان راجحاً بشدة لمصلحة المانيا، إضافة إلى بعض الثغرات في خطط القيادة العسكرية السوفياتية سمح للمعتدين بتقدّمٍ سريع على مختلف قطاعات الجبهة، فخلال شهرين من الزمن سقطت بيلوروسيا وأغلب اوكرانيا بين يدي الهتلريين، كما وصلوا إلى حدود ليننغراد دون أن يتمكنوا من اقتحامها فحاصروها لمدة تناهز 900 يوماً عانت خلالها المدينة وأهلها الكثير من الويلات والجوع الذي فتك بنحو مليون إنسان. أما على جبهة موسكو حيث خطط النازيون لإقامة استعراض عسكري في الساحة الحمراء في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1941- ذكرى انتصار ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى، فقد تمكنوا فقط من الوصول إلى مشارف المدينة حيث أتيحت للضباط الألمان فرصة مشاهدة العاصمة من خلال المنظار المكبِّر لا أكثر. لقد أنزلت معركة الدفاع عن موسكو أول هزيمة كبيرة للهتلريين وتلتها معركة "رْجِف" والتي غالباً ما يطلق عليها أتون رْجِف (مجابهة بين مليون ونصف مليون جندي سوفياتي و1,1 مليون ألماني) حيث قاتل السوفيات بقيادة جوكوف ببسالة يصعب تصوّرها وتمكنوا من وقف التقدّم الهتلري في تلك المنطقة متكبدين نحو 1,34 مليون ضحية بين قتيل ومفقود. ومع أن خسائر الألمان لم تتعد 390 ألف قتيل إلّا أن إنهاك الجيش الهتلري حال دون استمرار تقدّمه بالوتيرة نفسها كما في السابق وأفقده عنصر المبادرة في الحرب.
تشكّل معركتا ستالينغراد وكورسك منعطفاً مفصلياً في الحرب الوطنية العظمى إذ توقفت عندها نهائياً الهجومات الألمانية وبات التحرير اللاحق للأراضي السوفياتية المحتلة ومن ثم دول أوروبا الشرقية وصولاً إلى سقوط برلين السمة الأساسية لتلك المرحلة. بعض الأرقام قد تشكل دلالة على أهمية وعظمة هاتين المعركتين.
فعلى أرض مدينة ستالينغراد وجوارها اشتبك 1,2 مليون جندي سوفياتي ونحو مليون جندي ألماني وإيطالي وروماني ومجري وغيرهم من دول المحور في أشرس المعارك التي استمرت لخمسة أشهر، وخلال الشهرين والنصف الأخيرين كانت تدور رحاها من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت سطّر خلالها الجنود السوفيات ملاحم بطولية يعجز العقل البشري على تصوّرها. ومع حساب التعزيزات التي كانت تصل لكلا الجانبين المتقاتلين وصلت الخسائر السوفياتية الى 1,13 مليون قتيل، في حين قاربت خسائر دول المحور 1,5 مليون قتيل. وفي 2 شباط/ فبراير 1943 استسلم عشرات الآلاف من فلول القوات الهتلرية المنهزمة وعلى رأسهم قائد المعركة الفيلد مارشال فون باولوس، أعلى ضابط ألماني يقع في الأسر.
أما في محيط كورسك فخلال الفترة بين 5/7 و 23/8/1943 دارت رحى أكبر معركة للدبابات في التاريخ شارك فيها أكثر من 6000 دبابة و2,2 مليون جندي من الجانبين وأسفرت عن هزيمة ماحقة للنازيين الذين أملوا من تغيير مجرى الحرب لصالحهم بعد هزيمة ستالينغراد. وفقد الألمان أكثر من 90% من دباباتهم إضافة الى ما يزيد على مائة ألف جندي.
لن أفصّل المعارك الضارية التي خاضها الجيش الأحمر لتحرير بولندا ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وصولا إلى برلين والتي خسر في كلٍّ منها مئات الآلاف من الجنود إضافة إلى المعدات، لا يمكن للمرء هنا إلّا أن يشعر بالإشمئزاز من تصرفات وسياسات هذه البلدان حالياً التي أقلّ ما يمكن القول عنها أنها ناكرة لجميل من حرّرها. وتتعرّض نصب الجنود والقادة العسكريين السوفيات إلى أعمال تخريبية، كما ما يزال العديد منها تحت شعار "إزالة معالم الحقبة الاشتراكية".
لقد دفع الاتحاد السوفياتي في سبيل هذا النصر وتخليص البشرية من نير النازية والفاشية ما لم يقدّمه أيّ شعب آخر: نحو 27 مليون قتيل، عشرات ملايين الجرحى والمعوّقين والمفقودين، تدمير 1500 مدينة و70 ألف قرية سوفياتية بصورة كاملة إضافة إلى آلاف المصانع والكولخوزات والسوفخوزات الزراعية. وقام الشعب السوفياتي بإزالة الآثار التدميرية للحرب في مهلة زمنية قياسية وبمجهود جبّار من قِبل الجميع شعباً وقيادة.
لا يمكننا الحديث عن الحرب العالمية دون التطرق إلى نتائجها التاريخية والتي تبلورت خلال اجتماعات قادة الحلفاء (ستالين، روزفلت/ ترومان (بعد وفاة روزفلت)، تشرشل / إتلي (بعد هزيمة تشرشل في الانتخابات عام 1945)) في طهران (تشرين الثاني/ نوفمبر 1943) ويالطا (شباط/ فبراير 1945) وبوتسدام (تموز/ يوليو 1945) والتي نتج عنها اعتراف غربي بدور الاتحاد السوفياتي ونفوذه في أوروبا الشرقية وإلى ظهور معسكرين عالميين: رأسمالي واشتراكي مع ما ترتّب عن ذلك من تغييرات في خريطة العالم وسياساته. وهنا لا بدّ من التنوية بالديبلوماسية التفاوضية العالية لدى ستالين والوفد السوفياتي التي أرغمت الولايات المتحدة وبريطانيا على الرضوخ للمطالب السوفياتية على الرغم من التفاوت الشديد بين قدرات الاتحاد السوفياتي شبه المُدَمَّر بسبب الحرب والولايات المتحدة التي تعزّز اقتصادها وصناعتها بشكل ملحوظ في تلك الفترة ولا سيما أن قنبلة واحدة لم تسقط على اميركا إذا ما استثنينا الهجوم الياباني على بيرل هاربر في الحيط الهادي في بداية دخول اليابان الحرب ضمن دول المحور.
ماذا يعني عيد النصر اليوم للشعب في روسيا؟
ممّا لا شكّ فيه أن الغالبية العظمى من سكان روسيا الاتحادية (أكثر من 75% وفق جميع التقديرات) ما زالت تعتبر يوم 9 أيار/ مايو أهمَّ عيد يحتفلون به. ويتذكّر المواطنون أسلافهم الذين قتلوا أو قاتلوا أو ساهموا بعملهم في صناعة هذا الحدث الفذّ. ويجتاح هؤلاء شعور بالفخر تجاه ما قدمته شعوب الاتحاد السوفياتي من تضحيات لتحقيق هذا النصر. ويشكّل العرض العسكري الكبير الذي يقام سنوياً موضع اعتزاز الناس وثقتهم بأن البلد قادر على درء أيٍّ ممّن تسوّل نفسه الاعتداء عليه. كذلك تشكل مسيرة "الفوج الخالد" التي انطلقت عام 2012 وتُنظّم سنوياً في مختلف المدن والبلدات الروسية (وكذلك في أصقاع عديدة من العالم، ومنها لبنان) فعالية مؤثرة حيث يمشي الناس بصمت حاملين صور أقربائهم أو معارفهم الذين شاركوا في الحرب الوطنية العظمى من جنود وفدائيين وعمال وأطباء وممرضين، ويسود الجميع جو من الرهبة ممزوجة بالألم والفرحة والإعتزاز.
بالمقابل هنالك قلّةٌ من الناس غربيّو الهوى الذين ينظرون الى الحرب من منظار مختلف يصل بعضهم وللأسف إلى وضع مقاربة بين النازية والنظام السوفياتي، بين هتلر وستالين، في حين يتناول آخرون أن كلفة الحرب الكبيرة مردُّها إلى أخطاء فادحة للقيادة السوفياتية وإلى عدم إكتراث بعض القيادات العسكرية، وبالأخص ماريشال النصر غيورغي جوكوف، بالجنود ورميهم دون هوادة في معارك انتحارية (كمعركة رجف مثلاً التي أشرنا إليها أعلاه) مع إدراكهم لمصيرهم المحتوم. كما شطّ بعض الكتّاب المأجورين كالانتهازي فلاديمير ريزون الذي يوقّع مؤلفاته باسم فيكتور سوفوروف، وهو عميل مخابرات سابق هرب إلى بريطانيا عام 1978، في تحليلاتهم إلى القول بأن هجوم هتلر في 22 حزيران/ يونيو لم يكن إلّا استباقاً لحرب كان يعدّها ستالين ضدّ المانيا.
ومما لا شك فيه أن العديدين من الروس لا ينظرون بعين الرضى إلى بعض ما يُسوّق في وسائل الإعلام، ومنها مثلاً التلفزيون الحكومي، من بعض الوثائقيات والأفلام والمقابلات التي تنال بشكل أو بآخر من مؤسسة الجيش والمخابرات إبّان الحرب، وإن كانوا يغلِّفون ذلك بفترة الارهاب والاستبداد الستاليني.
كلمة أخيرة أودّ أن أتكلم فيها عن قدامى المحاربين السوفيات ممن شارك في الحرب الوطنية العظمى. لعقود مضت كنت أراهم يوم النصر يتجمعون في ساحة مسرح البولشوي أو على محطة قطارات بيلوروسيا ينتظرون زملاءهم ممن قاتلوا سوية وكانت لحظات التلاقي مليئة بالعواطف الجياشة وإعينهم تفتش عن آخرين لم يأتوا أو قد يكونوا رحلوا. وعلى رغم الوقت الصعب والمآسي التي عاشوها.. فإن محيّاهم ملأى بالفخر والاعتزاز بوطنهم السوفياتي وانتصارهم العظيم. ماذا تشعر القلة الباقية على قيد الحياة وجلّهم قد تخطّى التسعين من العمر..؟ أنا أتصوّر إحباطهم بواقع أن البلد الذي دافعوا عنه بأرواحهم وأجسادهم لم يعد موجوداً على الخريطة؛ وأن ضريح لينين الذي نُكِّست أمامه أعلام الجيوش الهتلرية المهزومة مغطى بألواح، كي لا يظهر، وإن كان على تلك الألواح ملصقات حول العيد؛ وأن العلم الروسي الحالي[iv] الذي يتقدّم الاستعراض العسكري إلى جانب علم النصر السوفياتي هو نفس العلم الذي رفعه ما كان يسمى ب"جيش التحرير الروسي" بقيادة الجنرال الخائن فلاسوف الذي قاتل مع الألمان وبشراسة ضد أبناء وطنه بعد أن انشق عن الجيش الأحمر عام 1942. وهل المخصّصات التي تقدّمها الدولة لقدماء المشاركين في الحرب الوطنية العظمى، رغم أنها تفوق بصورة ملحوظة ما تقدّمه الحكومة الروسية للمواطنين العاديين، كافية لكي ينعم هؤلاء الأبطال بحياة كريمة في الحقبة الأخيرة من عمرهم..؟ يكفي أن تقارن هذه التقديمات المتواضعة بالرواتب الضخمة التي يتقاضاها كبار الموظفين لكي تدرك مدى قِلّتها، ولن نتحدّث هنا عمّا يحصل عليه مدراء شركات النفط والغاز ومصانع الحديد والألومينيوم والمصارف وغيرها والتي تفوق مئات آلاف الدولارات شهرياً، علماً أن كلّ هذه المنشآت آلت إليهم عن طريق وضع اليد عليها بعد أكبر سرقة في التاريخ لمجمل ما بناه الشعب السوفياتي لعقود من الزمن في اقتصاده.
تقول الاغنية السوفياتية الشهيرة عن يوم عيد النصر: "انها الفرحة الممزوجة بالدموع في المقل". ولعلّ ذلك في ضوء ما مرّ على البلد خلال السنوات الثلاثين الأخيرة لَتوصيفٌ دقيق وإن كان الدموع التي تذرف حالياً هي أحياناً غيرها يوم النصر آنذاك.
[i] بسبب فارق التوقيت تحتفل الدول الأوروبية بيوم النصر في8 أيار/ مايو تناسباً مع وقت توقيع الألمان صكّ استسلامهم قبيل منتصف ليل 8 - 9... في حين كان الوقت في الإتحاد السوفياتي قد تجاوز منتصف الليل لذا فعيد النصر في جمهوريات الاتحاد السوفياتي هو يوم 9 أيار/ مايو.
[ii] كانت للحكومة البولندية حينها علاقات تحالفية وثيقة خاصة مع بريطانيا.
[iii] يطلق الروس على الحرب ضد نابليون عام 1812 اسم "الحرب الوطنية"، وهذه التسمية عمّمت على حرب 1941- 1945 مع إضافة صفة "العظمى".
[iv] العلم الروسي الحالي الذي اعتمد عام 1991 إثر تحلّل الاتحاد السوفياتي، لم يُعتمد بصفة رسمية تاريخياً إلّا في الفترة الواقعة بين ثورة شباط/ فبراير البورجوازية وثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917، أي لنحو 8 أشهر فقط.