تتقاطع هذه الأنظمة في اضطهاد النساء والطبقات الأدنى والغير- البيض، والسكان الأصليين واللاجئين/ات وغيرهم من الفئات المستضعفة، فكيف تتحرر النساء، من خلفيات مختلفة، من النظام الذكوري الأبوي، حيث تشهد الأكثرية ازدواجية في الاستغلال كونها امرأة ومنتميةً لإحدى هذه الفئات، دون تبنّي قضايا المقهورين بتقاطعاتها؟ وكيف تساهم الأنظمة في تشويه واضعاف واستغلال مفاهيم سياسات الهوية في عملية إعادة الإنتاج؟
يتشعب صراع النساء تحت النظام العالمي نفسه الذي يسيطر عليه "الرجل الأبيض الثري" - استعارة نموذجية - في تركيز على اختلاف هويّاتهن، والطبقة التي ينتمينّ إليها، عرقهن، أثنيتهن، عمرهن، الخ... وتهيمن السلطة الذكورية على غالبية الأطر التي تبلور واقعهن، إن في مؤسسات الدولة، أو تغييبهن عن المشهد السياسي، إلى مشاركتهن في صنع ابسط القرارات المتعلّقة في حياتهن داخل المنزل العائلي. غُيّبت النساء عن المؤسسات الدينية، حيث "أبدع" رجال الدين في تفسير وبلورة مختلف المفاهيم الدينية، وبناء المحاكم الدينية وقوانينها، التي تشكّل عامل أساسي في تقرير مصير النساء والإجحاف بحقوقهن...
في عالم يتفوّق به العرق الأبيض، يعامل الشعوب من أصحاب البشرة الملوّنة بعنصرية واستضعاف، فكيف إذا كانت مثلاً، امرأة وسوداء؟ هنا يظهر أمامنا محاولات السلطات المستعمِرة لتبرير استعمارها، عبر استغلالها لواقع النساء؛ حيث ادّعت هذه القوى حمل قضايا نساء الشعوب المستَعمرة اللواتي يعشن في مجتمعات "غير متحضّرة"، وكانت أحدث هذه الدعايات الاستعمارية عند جلاء الجيوش الأميركية من أفغانستان بعد استيلاء طالبان عليها. أو أن تخضع طفلة قاصرة للتزويج رغماً عنها لأنها لا تستطيع الخروج عن طاعة عائلتها؛ أو أن تقتل امرأة لأنها تجاوزت قرارات عشيرتها بشأنها، وأن يتغاضى النظام عن كل هذه المسائل باعتبارها "حوادث فردية". كما أن النظام القانوني يختار البت في قضايا النساء "على القطعة"، فجريمة الشرف مسألة عائلية من شأنها أن تسمح لأخ أو زوج أو أب بعقوبة مخفّضة بداعي المحافظة عن "شرف العائلة"، أما في قضايا الاغتصاب، قد تخشى النساء اللاجئات مواجهة المجرم أمام القانون، الذي سيجهض تجربتها بمجرّد التعرّف الى صفتها كلاجئة، وإن كانت توفي الشروط، فمن المرجح أن تتعرّض لنعتها بـ "المفترية"، وهكذا يصبح تعجي وتهميش مباح تحت إطار "دولة القانون"، فالقانون دائماً في صف الأقوى.
يفرض النظام الرأسمالي شرطًا اساسيًا لتحرر النساء، وهو الاستقلالية المادية. في الوقت عينه، لا تزال شريحة كبيرة من النساء، وخاصة المهمشات، محصورة في الحيز الخاص، كمدبّرة منزل ومربية وآلة إنجابية، فتشارك بإعداد العائلة دون أي مقابل، وهكذا يكرّس هذا الدور"النابع عن المحبة"، والذي يفرض على النساء كمعطى طبيعي، استغلال قوة عمل النساء ويحدّ من قدرتهن على الانخراط في التعليم وسوق العمل، وكل ما يخرج عن هذا الإطار. إلى أن هذا الدور ليس الوحيد الذي يخضع له جميع النساء، فتكمن في بنية النظام عوائق أخرى تعيق وصولهن إلى الاستقلالية المادية، فعلى سبيل المثال ظروف النساء اللاجئات تفرض عليهن الانحصار بفرص عمل محدودة، والتي يسمح بها القانون لهذه الفئة، كما أن نظام الكفالة يخضع العاملات الأجنبيات، اللواتي تعملن بأجور منخفضة، لما يسمح به كفيلهن من حرية. وبوجود خيارات محدودة تحت هذا النظام، ثمة نساء يلجأن إلى العمل الجنسي لكسب معيشتهن، إما بالغصب أو بقرار شخصي، وفي كلا الحالتين يتعرضن لاستغلالٍ مضاعف وتهميش أكبر، خاصة وأن معظم الدول غير معنية بحمايتهن، حيث تندرج هكذا أعمال تحت إطار "غير أخلاقي"، هذا دون التطرق الى اقصاء فئة كبيرة من الناس من سوق العمل بسبب خياراتهم/ن الجنسانية أو شكلهم/ن التي لا تشبه الصورة النمطية لجندرهم/ن. يصبح النضال من أجل الاستقلالية المادية للنساء يندرج تحت لائحة شروط يفرضها النظام لإعطائهن هامش من حقهن في تحقيق أنفسهن.
يعتمد النظام مفهومًا مشوّهًا لسياسات الهوية، فيصبغ أجندته "البيضاء" بصورة كونداليزا رايس مثلاً، وزيرة الخارجية الاميركية سابقاً، والتي شغلت منصب وزاري كبير على الرغم من كونها امرأة سوداء. ولكنها ايضًا لا تمثّل أي معارضة فعلية تهدّد الأجندة المذكورة آنفاً. والجدير بالذكر ايضاً أن رايس ترجمة لمحاولات الأنظمة العديدة لتدجين أي حركة معارضة تُستعمل عند اشتداد قمعه للفئات المستهدفة، فيتم التودد للحركات النسوية "المحافظة" في محفل يعبّر عن التكامل ما بين فعل التدجين والحركات النسوية المختزلة. أما بالنسبة للسياسات المتعلّقة "بتمكين" النساء، فغالباً لا تسعى لإحداث تغيير جذري وفعال لواقع النساء وحياتهن، بل تهدف لتزيّن برامج السلطات ومختلف الجمعيات الأهلية، كي لا يقع اللوم على النظام بإجهاض هذه القضايا، وفي نهاية الأمر يكتفي بالتبرير على الشكل التالي: "إن ما تطلبونه يفوق الطبيعة، فهذا أمرٌ واقعي وطبيعي منذ بدء الخلق".
تنظر الشركات الى يوم المرأة على أنه فرصة لتحقيق ربح أكبر، عبر القيام بحملات دعائية رومنسية، غالبًا ما نرى فيها امرأة "قوية" تستحق المكافأة وتستحق أن تستهلك، فما أهمية أي قضية غير قابلة للتسليع والتمييع؟ باتت الفكرة واضحة، أي حركة نسوية لا تعنَ بقضايا المضطهدين/ات، هي حركة عاجزة عن تحقيق أي هدف سياسي أو مساواة، وبالعكس، أي حركة تهدف الى تحقيق عدالة الاجتماعية وتغيير النظام، لن يكون لها أي منفعة إن لم تحمل قضايا النساء وتعمل في سبيل التأثير على واقعهن.