المسعودي: المؤ رِّخ العربي العِلمي الرائد

في عالم اليوم حيث يسود التعصّب ويتمّ التسويق للجهل والسطحيّة والتفاهة، تحت مسمّيات خادعة من مِثل مواكبة التطوّر وموضة العصر، وحيث بلغت سهولة العيش لكثيرين، وتوافر الانترنت ووسائل التواصل حدّاً زاد فيه التكاسل عند تلامذة المدارس كما طلّاب الجامعات، وقلّت الرغبة، وبذل الجهد، في التحصيل العِلمي والبحث الجادّ الرّصين، نعود عَبر البحث والتدقيق في المصادر والمراجع الاصيلة إلى عرض نموذج لباحث عربي وعالِم ومؤرِّخ مميَّز ورائد في مجاله، دأب على التحصيل العِلمي والدراسة فالكتابة والتأليف حتّى ترك لنا أثراً عِلميّاً يُحتذى به، عَلّه يحفّز أبناء اليوم على الجِدّيّة والموضوعية والبُعد عن التعصّب والأفكار المسبَقة المعلَّبة.

نبذة عن حياته:
هوعلي بن الحسين بن علي المسعودي (يرجع نسبه إلى عبدالله بن مسعود صاحب النبي) أحد أهمّ المؤرّخين العرب في القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلادي.
لا نعرف إلّا القليل عن حياته. يُرجَّح أنّه نشأ في بغداد، مع أنّ ابن النديم صاحب "الفهرست" يروي أنّهُ من أهل المغرب، لكنّ المسعودي نفسه يذكر أنّ العراق موطنه ويُستدَلّ من كلامه أنّه "بغداديّ الأصل"1.
غادر بغداد عام ٣٠١ ه/ ٩١٣ أو ٩١٤ م، في رحلة استكشافيّة أوصلته إلى مشارف الصّين، تعمّق خلالها في الدراسات الجغرافية مستعيناً بالآلات العلميّة التي كانت معروفة في عصره. ثمّ أمضى عشر سنوات متنقّلاً بين العراق وسوريا ومصر وفلسطين. توفّي في مصر عام ٣٤٥ ه/ ٩٥٦ م (او ٣٤٦ ه بحسب بعض المؤرّخين). و"كان إخباريّاً مفتياً علّامة صاحب ملَح وغرائب... ولم يعمِّر على ما ذُكر، وقيل أنّه كان معتزليّ العقيدة"2.


من مؤلّفاته:
- كتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الاشراف والملوك".
- كتاب "التنبيه والأشراف".
وهما الوحيدان الباقيان من مؤلّفاته الكثيرة، وله كتب أخرى، ضاعت كلّها، نذكر من أسمائها: "ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور"، "الرسائل"، "التاريخ من أخبار الأمم من العرب والعجم"، "خزائن الملك وسِرّ العالمين"، "المقالات في أصول الديانات".


حول المسعودي:
يقول فرانز روزنتال: "إنّ المسعودي هو في ما نعلم، أوّل من جمع بين التاريخ والجغرافية العلميّة بأسلوب رائع... وفي كتاب التنبيه والأشراف نصّ مشهور يصف فيه المسعودي المؤلّفات التاريخيّة النصرانية التي كان يعرفها... يبدو من هذا النصّ أنّ النصارى المعاصرين أو السابقين للمسعودي كانوا قد قاموا بمثل هذا الجمع بين التاريخ والجغرافية... يفيد في تذكيرنا بأنّ العلوم (الإغريقية) السريانية النصرانية ساهمت كثيراً في تطوّر الوضع العلمي في الإسلام الأمر الذي طبّقه المسعودي على التاريخ.
وفي الفصل الأوّل من كتاب مروج الذهب الذي يبحث في المبدأ والخلق والكون والجغرافية، يبيّن المسعودي بوضوح أنّه يعالج موضوعاً علميّاً قد يناقض بعض المعتقدات الدينيّة في الإسلام... يمكن القول بأنّهم [أي مؤرّخي العالم] سلكوا السبيل التي أراهم إيّاها المسعودي... فالروح العلميّة التي استيقظت في هذا المضمار أثبتت أنّها صلبة وليس من السهل اخضاعها للاهوت...
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ ظهور المؤرّخين الجغرافيّين أمثال المسعودي في العصر الذي ظهروا فيه لم يكن وليد الصدفة... وأنّ انتقال علوم الإغريق، وخاصة الجغرافية الإغريقية الرومانية، أثار في المسلمين الرغبة في القيام بانفسهم بالبحث الشخصي وتوسيع أفقهم السياسي بالاطّلاع على الشعوب الأجنبيّة"3.
ويقول طريف الخالدي: "ان من يولي ظاهر نصّ المسعودي انتباهاً وثيقاً يبتدره، في أرجح الظنّ رواية ملزوزة الحبك، جيّدة التوثيق. فبُعَيد بداية مروج الذهب، أكبر كتبه التي بقيت، ثمّة "فهرس للمحتويات" تُدرج فيه الفصول المرقّمة مع عناوينها. ويعقب ذلك ثبت نقديّ بالمراجع تُستعرض فيه أهمّ أعمال المؤلّفين السابقين وتُقوّم... ومنتهى غاية المؤلِّف هي أن "نبقي للعالم ذكراً محموداً وعِلماً منظوماً عتيداً"
…كان التاريخ عند المسعودي، ذروة انتاجه العلمي والغاية القصوى التي توجّهت إليها كلّ أبحاثه السابقة [الفلسفة علم الكلام والجغرافيا، والطِبّ، وعلم الفلك والارصاد الجوّيّة والحيوان، فضلاً عن اهتماماته بالعلوم الإسلامية التقليدية، كالفقه والحديث وما اشبه]...
… قد يجوز للمرء أن يرى في عمل المسعودي تضافر عدّة تراثات ثقافية، وفي طليعتها تراث الفلسفة الهلّنستية والعِلم الطبيعي. أمّا من داخل تراثه الإسلامي نفسه فقد عوَّل كثيراً على الفكر الشيعي وعِلم الكلام المعتزلي.
ونتيجة لهذه الاهتمامات الواسعة الأفق، كان أوّل مؤرّخ عربي مسلم يطبِّق مبادئ المنهج العِلمي والتفكير الفلسفي على دراسة التاريخ التي عَدَّها الغاية التي كانت كلّ مساعيه العلميّة السابقة بمنزلة الإعداد لبلوغها."4
ويقول المسعودي نفسه: "ولَولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر لبطُلَ أوّل العِلم وضاع آخره، اذ كان كلّ عِلم فمِن الأخبار يُستخرَج وكلّ حِكمة منها تُستنبط والفقه منها يُستثار والفصاحة منها تُستفاد وأصحاب القياس عليها يبنون وأهل المقالات بها يحتجّون ومعرفة الناس منها تؤخذ وأمثال الحكماء فيها توجد... ففضيلة عِلم الأخبار [أي عِلم التاريخ] بيّنة على كلّ عِلم وشرَف منزلته صحيح في كلّ فهم..."5

 

[1]   ياقوت الحموي، معجم الأدباء، الجزء السابع، ص. ٩٣.

[2]   طبقات الشافعيّة، الجزء الثاني، ص. ٣٠٧.

[3]   فرانز روزنتال، علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، ص. ص. ١٥١ – ١٥٤.

[4]   طريف الخالدي، فكرة التاريخ عند العرب من الكتاب إلى المقدّمة، ص.ص. ١٧٥ – ١٨١.

[5]   المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الأشراف والملوك، تحقيق شارل بلّا، الفقرة ٩٨٩.

 

  • العدد رقم: 417
`


بيار أديب ضاهر