مصر ما بين ضغوط اقتصادية مستدامة وتحديات سداد الديون

تعيش مصر وسط أزمة اقتصادية صعبة، تفاقمها التوترات الجيوسياسية، إلى جانب شح شديد في سيولة الدولار لديها، بسبب تراجع تحويلات العاملين في الخارج، وإيرادات السياحة، وقناة السويس، والصادرات.
 وتواجه الجمهورية تحديات اقتصادية كبيرة في الآونة الأخيرة. إذ تأثر الاقتصاد المصري بشكل كبير بجائحة كورونا، حيث تراجعت النشاطات الاقتصادية وتضررت القطاعات الرئيسية مثل السياحة

والتصنيع والنقل.

إضافة إلى ذلك، تعاني مصر من مشكلات هيكلية مثل البطالة العالية، وارتفاع معدلات الفقر، وانعدام التوازن في توزيع الدخل.، مما يزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار الاقتصادي وسداد الديون.



وبهذا الصدد، كشف البنك الدولي أن ديون مصر الواجب سدادها في أول 9 أشهر من 2024، تقدر بـ 42.8 مليار دولار، ويبلغ أصل القروض 36.46 مليار دولار، والفوائد 6.31 مليار دولار.
ويبلغ سعر الصرف الرسمي 30.9 جنيه للدولار في البنوك، بينما يقترب السعر في السوق السوداء من مستوى 65 جنيهًا، ما زاد إقبال المصريين على الملاذات الآمنة للتحوط من توحش التضخم، ما قفز بسعر الذهب إلى مستويات لم تشهدها السوق من قبل، ليصل سعر غرام الذهب عيار 21 الأكثر شهرة في مصر إلى 3520 جنيهًا.
للتعامل مع هذه التحديات، اتخذت الحكومة المصرية عدة إجراءات. قامت بتنفيذ برامج إصلاح اقتصادي وتحفيز استثمارات القطاع الخاص، وتسهيل الإجراءات التجارية، وتنشيط الصادرات، وتنفيذ مشاريع تنموية كبرى مثل قناة السويس الجديدة ومشروعات الطاقة المتجددة.
علاوة على ذلك، أقدمت الحكومة على تنويع مصادر الإيرادات عبر تطوير قطاعات جديدة مثل البترول والغاز وتكنولوجيا المعلومات.
بالنسبة لسداد الديون، تعاونت مصر مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجهات الدولية الأخرى للحصول على تمويل ودعم مالي. كما أجرت إعادة هيكلة لبعض الديون للبلدان الأخرى. ومع ذلك، لا يزال هناك تحديات كبيرة تواجه الاقتصاد المصري، ويحتاج البلد إلى مزيد من الجهود لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين التوزيع العادل للثروة وتوفير فرص عمل للشباب.

ودفعت هذه الأوضاع مؤسسة "موديز إنفستورز سرفيسز" لخفض نظرتها المستقبلية لتصنيف الإصدارات الحكومية المصرية من "مستقرة" إلى "سلبية"، في ظل تراجع قدرة البلاد على تحمل الديون الحكومية وارتفاع الضغوط الخارجية، كما أكدت تصنيف الإصدارات بالعملات الأجنبية والمحلية على المدى الطويل عند "Caa1".
ألمحت المؤسسة في تقرير لها إلى الزيادة الكبيرة في مدفوعات الفائدة "التي من المتوقع أن تستهلك ثلثي الإيرادات في نهاية السنة المالية 2024"، والضغوط الخارجية المتزايدة "مع اتساع الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية والسوق الموازية بشكل أكبر"، والتي أدت إلى تعقيد عملية التكيف الاقتصادي الكلي.
وأوضحت "موديز" إنه حتى مع الزيادة المتوقعة في تمويل صندوق النقد الدولي واستمرار التزام الحكومة بتحقيق الفوائض الأولية، فإن الآفاق السلبية تعكس "مخاطر عدم كفاية إجراءات السياسة النقدية والدعم الخارجي لمنع إعادة هيكلة الديون نظرًا لمؤشرات الدين الضعيفة للغاية في مصر وتعرضها المرتفع للديون وتصاعد مخاطر الصرف الأجنبي وأسعار الفائدة".
وردًا على تحرك "موديز"، اعتبرت وزارة المالية في بيان لها إن مؤسسة التصنيف الائتماني لم تأخذ في اعتبارها الجهود الحالية للحكومة، حيث إن برنامج الطروحات يُعزز قدرة مصر على تلبية الاحتياجات التمويلية خلال العامين المقبلين، ويُسهم في جذب المزيد من التدفقات الاستثمارية، والحد من الاحتياج للتمويل الخارجي، خاصة في ظل عمل الحكومة على إدارة مخاطر الاقتصاد الكلي بمرونة لاحتواء الصدمات الخارجية المتتالية، وتتعامل بتوازن وحرص شديد مع الآثار السلبية الناتجة عن التوترات الجيوسياسية المؤثرة على النشاط الاقتصادي.
وفي السياق، كثفت مصر استدانتها محليًا خلال النصف الأول من العام المالي المنتهي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، للحدّ الذي تجاوزت فيه إصدارات أذون وسندات الخزانة إجمالي ما تستهدفه البلاد خلال عام بـ26%، في الوقت الذي تنتظر فيه البلاد انفراجًا في المحادثات مع صندوق النقد الدولي.
وقفزت إصدارات مصر من أدوات الدين الحكومية بالعملة المحلية بنحو 59% في النصف الأول من السنة المالية 2023-2024 لتسجل ما يصل إلى 2.7 تريليون جنيه، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
وكانت مصر تقدر الاحتياجات التمويلية خلال العام المالي الجاري بـ 2.14 تريليون جنيه، تسعى لتوفير 1.955 تريليون منها عبر التمويل المحلي من خلال إصدار سندات وأذون خزانة.
يأتي هذا في الوقت الذي تُجري مصر محادثات مع صندوق النقد الدولي لمضاعفة برنامج الإنقاذ الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار على الأقل، والذي لم يتم إقراض البلاد سوى القليل منه حتى الآن. وفي حال إقراره سيفتح الباب أمام تمويلات خارجية أخرى للبلد بالعملة الأجنبية.
ويعود ارتفاع إصدارات الدين الحكومي في مصر إلى ارتفاع خدمة الدين، والتضخم واحتياج الإنفاق الحكومي الكبير على المشروعات أو غير ذلك من مستلزمات الاستيراد.
تبلغ أسعار الفائدة حاليًا بمصر 19.25% للإيداع و20.25% للإقراض، بينما يبلغ سعر الفائدة الحقيقي في مصر، أي معدل الفائدة الاسمي مطروحًا منه معدل التضخم، سالب 14.45% وفق أحدث بيانات. وتعتمد وزارة المالية حاليًا على أدوات الدين قصيرة الأجل بشكل أكبر من الأدوات طويلة الأجل من السوق المحلي لتفادي تحمل أسعار الفائدة العالية لفترات طويلة.
بلغ متوسط عوائد أذون الخزانة الحكومية لأجل 3 أشهر في يناير الجاري نحو 25.8%، و25.96% لأذون ذات أجل 6 أشهر، بينما بلغ العائد على سندات الخزانة لأجل 3 سنوات نحو 23.98%.
وتخطط وزارة المالية المصرية لطرح أذون خزانة بنحو 2.3 تريليون جنيه خلال أول 11 شهرًا من العام الجاري في إطار سعيها لسدّ الفجوة المالية بالبلاد.

بدورها، أكدت مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" البحثية، أن التوترات المستمرة في البحر الأحمر وتراجع عائدات قناة السويس، تزيد الأمر سوءًا بشأن موارد النقد الأجنبي لمصر التي تحتاج بأمر عاجل للتوصل إلى اتفاق معزز مع صندوق النقد الدولي للحصول على السيولة اللازمة من النقد الأجنبي. إذ تراجع إيرادات قناة السويس من النقد الأجنبي بنسبة 40% في النصف الأول من شهر يناير/كانون الثاني الجاري، بسبب هذه التوترات.
ويتفاقم نقص العملة الأجنبية في مصر مما دفع الجنيه للهبوط في السوق السوداء إلى مستوى 60 جنيها للدولار بخصم 47% مقارنة مع السعر الرسمي، كما لعبت الأزمة دورًا في قرار جيه.بي مورجان باستبعاد مصر من مؤشره للسندات الحكومية للأسواق الناشئة الأسبوع الماضي.
وأوضحت "كابيتال إيكونوميكس" في تقرير لها الخميس أن حاجة مصر لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، هو أمر عاجل للحصول على السيولة اللازمة من النقد الأجنبي وإلّا فقد تواجه خطر حدوث تصحيح فوضوي مما سيضعها على مسار التخلف عن سداد ديون سيادية ويشكل ضغطًا على القطاع المصرفي المحلي.
يُشار أن قيمة الجنيه المصري انخفضت بأكثر من النصف أمام الدولار منذ مارس/اذار 2022، وكان تقييم العملة المحلية بأكثر من قيمتها من أسباب تعطل حصول مصر على الدفعة الثانية من قرض بقيمة 3 مليارات دولار توصلت لاتفاق بشأنه مع صندوق النقد الدولي في أواخر العام الماضي، وفقًا للتقرير.
وتوقعت المؤسسة البحثية في تقريرها، تباطؤ نمو الاقتصاد المصري إلى 2.5% في السنة المالية الحالية قبل أن يعاود تسجيل 3.8% في السنة المالية 2024-2025 مع توقعها استمرار المعاناة الاقتصادية في البلاد، لافتة إن النمو الفصلي تراجع إلى 2.9% في الربع الأخير من السنة المالية التي انتهت في 30 يونيو/ حزيران 2023، وهو أضعف معدل خلال عشر سنوات باستبعاد فترة الجائحة، وذلك بعد نمو نسبته 3.9% في الربع الذي سبقه.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ المعدل السنوي للتضخم في المدن المصرية 34.6% في نوفمبر/ تشرين الثاني.

وتوقعت "كابيتال إيكونوميكس" أن تستمر معاناة الاقتصاد المصري على مدى عامين مقبلين بفعل الخفض المحتمل لقيمة العملة والتضخم المرتفع وتشديد السياسات المالية والنقدية، مشدّدة على أن مصر بحاجة لخفض قيمة العملة مجددًا لتعزيز النمو في المدى المتوسط وإن كانت آثاره قريبة المدى ستكون موجعة، إذ سيطيل أمد التضخم مما سيؤدي لتآكل القيمة الحقيقية للدخل بالنسبة للمواطنين. كما مصر بحاجة أيضًا لتقليل معدل الإنفاق العام الحالي لتعويض أثر ارتفاع تكلفة خدمة الديون.
ومن المتوقع أن يلجأ البنك المركزي في ‎مصر إلى رفع الاحتياطي النقدي الإلزامي على البنوك بنسبة قد تصل إلى 6% كإحدى الأدوات المتاحة في يد السياسة النقدية لسحب السيولة بهدف كبح جماح التضخم، بحسب توقعات 6 محللين ومصرفيين لـ "الشرق".

 

  • العدد رقم: 419
`


كاترين ضاهر