الحزبان الجمهوري والديمقراطي من منشأ رأسمالي واحد، يتناوبان على الرئاسة الاميركية منذ أكثر من 150 عاماً. وهذه المرة، فرض إيقاع المعركة الرئاسية بثقله على الاميركيين والعالم، لتبدو، وكأنها معركة بين خيارين أيديولوجيين وسياسيين مختلفين: العظمة والانهيار، أو بين القوة والضعف، أو بين الحرب والسلم... الخ. بحيث أن مزاجية الناخبين الفقراء وصلت إلى حد تصديق وعود أحد أكبر الاثرياء (ترامب)، لعدة أسباب، منها على سبيل المثال: معاقبة بايدن على سياسته، وضعف حضور وحنكة المرشحة هاريس. لكن، المسألة الاقتصادية شكلت محور العملية الانتخابية ونتائجها.
فالاقتصاد الأميركي مترنح إلى درجة كبيرة، بحيث وصلت مستويات الديون في عهد "بايدن" إلى مراحل عالية غير مسبوقة، وقدرت المصادر أن ديون القطاع العام في أميركا بلغ نحو 35 تريليون دولار، أي بنسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا المبلغ يتزايد كل عام بمقدار 4 تريليون دولار كل سنة. وهو بحد ذاته مؤشر واضح على أن أغنى وأقوى دولة في العالم قد تجاوزت حدودها.
برز دونالد ترامب في عهده الأول ( 2016 -2020) كرجل أعمال، وصاحب مزاج غامض ومقلق، ومدير للصفقات السياسية والمالية. شن حروبه الاقتصادية على الصين، وطرح مشروع "صفقة القرن" وأبرم صفقة اتفاقية (ابراهام) التطبيعية، وأوقف التفاوض مع إيران، وحاول خنق السعودية وشفط أموالها، نقل مقر سفارة بلاده إلى القدس، وأهدى الجولان المحتل للعدو الصهيوني. لكنه، لم يفلح في مساعيه، ولم تتخلص اميركا والرأسمالية العالمية من أزمتها.
اما ترامب الثاني، فلن يكون سوى نسخة قديمة منقحة عن ترامب الأول مع فارق إكتساب خبرة في إدارة الصفقات أكثر. وما كمية الشعارات والوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية فشأنها مثل "حظ اللوتو" التي تترافق مع حملة تسويق مكلفة جداً ومدفوعة من قبل أثرياء المال لدعم "الرجل الخارق الحارق الذي لا يقهر"، ولبناء الثقة بقدراته العجيبة على طرح الحلول السحرية وحل كافة المعضلات والأزمات الأميركية والعالمية. وهو بالطبع، سيناريو هوليوودي لتخويف العالم وانقيادها وراء مفاهيم "السلام والأمن والمال" الترامبية، ونصيحة لمن يعنيه الأمر بتجنب غضب العملاق الجبار الشرير.
ترامب لم يقرأ المتغيرات والتحولات العالمية، ولا يريد طبعاً. فشعار" أميركا أولاً" اصبح من الماضي. وشعار "عظمة أميركا"، يعني، أن ترامب ما زال يعيش حقبة عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
العالم، وبفضل أميركا أولأ وعظمتها بحروبها وكوارثها يعيش حالة فظيعة من الحروب والصراعات والإضطرابات والفوضى والتبدلات العميقة في العلاقات الدولية. فالرياح تسير بما لا تشتهي أميركا بعد الغرق لسنوات طويلة في حربي أفغانستان والعراق، والخروج منهما "بخفي حنين". والصين وروسيا والبريكس اليوم هم غيرهم قبل ثلاثين عاماً في القوة والمنافسة والمواجهة.
ولأن الإدارات الاميركية ليست بوارد المراجعة والتقييم، والإصرار على نكران تراجع القطبية الآحادية الاميركية أمام ميزان القوى الجديد، وسعيها الدائم للغزو والتدخل في شؤون العالم للهيمنة والسيطرة، فقد تورط "بايدن" بحروب أميركية جديدة يخوضها بالوكالة عنه وعن أوروبا زيلنسكي في أوكرانيا ضد روسيا. ويخوضها نتنياهو بالأصالة عن كيانه ونفسه، وبالوكالة عن المشروع الاستعماري الإمبريالي في الشرق الأوسط في غزة والضفة ولبنان والمنطقة ضد المقاومة. وكل الجبهات المفتوحة بعنف وقوة لحد الآن من أوكرانيا إلى غزة ولبنان لم تحرز فيها أميركا ووكلائها أية سياسية توازي ادعاء عظمتها، أو عظمة قوة أسلحتها التدميرية.
لقد فشلت أميركا ومعها أوروبا وحلف الناتو والعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا في تحقيق أهدافها الرئيسية المتمثلة في محاصرة روسيا وإضعافها وتفتيتها إلى حد إعلان ترامب عن وجوب ضرورة وقف هذه الحرب دون تأخير. أما روسيا التي فرضت قوة حضورها في المواجهة، والالتفاف على الضغوطات والعقوبات، فقد استطاعت أيضا من توسيع دائرة تحالفاتها مع بلدان حليفة لأميركا مثل السعودية والهند وتركيا.. ودخلت في تحالفات وثيقة عسكرية واقتصادية مع الصين وكوريا الشمالية. والنتيجة اليوم، تحطم عظمة أميركا والمزيد من التأزم الاميركي – الاوروبي حول فاتورة الحروب.
اما في منطقة الشرق الأوسط، فالحرب الاميركية – الصهيونية المجنونة على غزة والضفة ولبنان بدورها، لم تستطع أن تحقق أهدافها المعلنة في القضاء على المقاومة، وتصفية القضية الفلسطينية وإلغاء الحقوق الوطنية التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني وتنفيذ عملية التهجير الكبرى. بالرغم من تسخير كل القدرات والإمكانات العسكرية والسياسية والإعلامية والقانونية الدولية لمصلحة الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاغتيالات والتدمير.. الخ. بل، أن هذه الحرب بات تهدد حلفاء أميركا و"إسرائيل" في المنطقة، في حال توسعها إلى حرب إقليمية شاملة.
لم يعد العالم يخاف من جبروت أميركا، بعد أن سقطت في جميع إمتحانات مواد الحرب والسلم والأمن والعدالة والحقوق الإنسانية الدولية والديمقراطية. اما اتفاقاتها وصفقاتها الترقيعية المجتزئة المشبوهة فلم تعد مجدية او مقنعة لأحد. ولن يكون الشرق الأوسط في عهد ترامب الثاني سوى منطقة مضطربة أكثر لسنوات متأرجحة بين الحرب الناعمة والصفقات المشبوهة لتمرير "مشروع السلام" وفق قاعدة "صفقة القرن" الساقطة التي تجاوزها الزمن والميدان (فالمكتوب يُقرأ من عنوانه – لا سيما بعد تعيين ترامب لفريق إداري صهيوني بإمتياز). اما هدف ترامب الحقيقي فسينصب على الصين لما تشكله من خطر كبير يهدد اميركا بحيث أنه لم يخف نيته في فرض تعريفات جمركية شديدة على الواردات الصينية، وهو مؤشر سلبي لما سنشهده من ضرر جدي يلحق بنسيج التجارة العالمية، ويهدد سوق العولمة الاقتصادية الهشة، ويدفع بها إلى المزيد من الأزمة والركود.
إن الأعباء المادية والسياسية التي فرضتها أمريكا في حروبها الخارجية، أدت وتؤدي إلى إستنزاف هائل، لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تتحمله إلى أجل غير مسمى. لذلك، طرح ترامب شعاراته "السحرية" بوقف الحروب وعدم الاستمرار بها، والسعي إلى إجراء صفقات السلم (الترامبية). وهي شعارات ساهمت في جذب الناخب/ة الأميركي إلى حضنه.
الرئيس الخارق سيصطدم بتحديات عملية كبيرة جداً، في الاقتصاد، والحروب الخارجية، والعلاقات مع الصين وروسيا واوكرانيا ودول البريكس وإيران وحتى مع الشركاء الأوروبيين وحلف الناتو، والعديد من الدول التي تصنف في الخانة الأميركية، بعد جس نبضه في كيفية إدارة الأزمة والسياسات الخارجية وأطروحات وقف الحرب والسلام، وكيف!
عجلة التاريخ تدور، وستكتشف الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة في اميركا الوجه الحقيقي الاقتصادي والسياسي للرئيس المنتخب ترامب، وأهمية صفقاته التجارية بالنسبة لطبقة 1% فقط ، والتي لا علاقة لها بوعود الانتعاش والازدهار التي طرحها ترامب من أجل تحسين الدخل الفردي وتعزيز فرص العمل وتقديم الخدمات الصحية والمعيشية لشرائح واسعة من المجتمع الأميركي. ولا يعني هذا بالمطلق أن هاريس أفضل حال منه. فالحزبان الجمهوري والديمقراطي متفاهمان طبقيا على تقسيم الأدوار حفاظاً على الوجه الديمقراطي للإمبريالية الأميركية، ومختلفان في شكليات أساليب إدارة أميركا والعالم. والنتيجة واحدة تعمق الأزمة والفساد والحروب والفوضى وتوحش السوق في العالم. والجديد الذي سنشهده مع ترامب سيتلخص في كتابة فصل مضطرب جديد في رواية عظمة جنون أميركا مع عهد ترامب الجديد.
لقد آن لقوى اليسار والتحرر في المنطقة والعالم أن تنتفض لتلعب دورها التحرري، وتمارس فعل جنونها الثوري الجميل.
فصل مضطرب جديد مع عهد ترامب الجديد
فوز دونالد ترامب الساحق على هاريس أطاح بكل التوقعات وإستطلاعات الرأي لكبرى المؤسسات الاميركية حول نسب التقارب "ع المنخار"، ويبدو أن منخار ترامب طويل جداً مثل "بينوكيو".
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.